الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

التعليم المعتمد على الكفايات

الأحد 06/مايو/2018 - 01:06 ص

ضمن الجهود الضخمة التي تبذلها مؤسسات الدولة لتنفيذ رؤية المملكة العربية السعودية الطموحة 2030، تعمل وزارة التعليم بأقسامها وإداراتها وشركاتها كافة بكل عزيمة وإصرار لتنفيذ البرامج والمشاريع والمبادرات التي تستهدف تطوير المنظومة التعليمية بتفاصيلها كافة، وتأتي في مقدمة تلك المبادرات المهمة ما يتعلق بالمهمة الأساس للتعليم وهي ما يحدث داخل الفصل الدراسي وخارجه من عمليات تعليم وتعلم وإرشاد وتوجيه وتفاعل بين المعلم وطلابه وبين الطلاب أنفسهم وبين الطلاب ومصادر المعرفة المختلفة. صحيح أن المبادرات الأخرى التي يمكن أن تسهم في تحسين البيئة المدرسية وتطوير مستوى القيادة التربوية وتحسين مستوى الخدمات التعليمية مهمة ولكن الأهم هو - كما أشرت - مستوى التفاعل وعمليات التعلم ومداخل التدريس، في ضوء فلسفة تحدد دور كل عنصر من عناصر التعلم الأساسية: الطالب والمعلم والمنهج ومصادر التعلم من كتب مدرسية وغيرها، بما يجعل من تعلم الطلاب في أغنى ما يمكن من حصيلة معرفية ومهارية وقيمية، شخصيا واجتماعيا.

 

 

من هذا المنطلق تأتي واحدة من أهم المبادرات التي أمضينا أكثر من عام كامل في دراستها ومناقشة تفاصيلها وتحديد مواصفاتها؛ ألا وهي مبادرة: «التعليم المعتمد على الكفايات» Competencies Based Education التي تستهدف تطوير فلسفة التعليم والتعلم، من خلال تدريب المعلمين لتغيير دورهم وطريقتهم في التدريس، فبدلاً من التركيز على نقل المحتوى المعرفي فحسب، يكون التركيز على عمق الفهم المعرفي، تطبيقاً وتحليلاً وتركيباً، كما يكون التركيز على المهارات المعرفية وغير المعرفية، التي ينبغي أن يخرج بها الطالب من مواقف. وغني عن القول أن حفظ المعلومة اليوم لم يعد له شأن كبير في ظل توافر مصادر المعرفة الورقية والإلكترونية، كما أن المعلومة مهما بذل الطالب من جهد في حفظها واستذكارها، سيتم نسيانها مع مرور الزمن ولا يعيش في ذاكرة الطالب سوى المعلومات التي يستخدمها بشكل يومي أو دوري. ولهذا فإن الأهم من ذلك كله هو المهارات والقيم التي يكتسبها الطالب من عملية التعلم والتعليم بما في ذلك المهارات غير المعرفية كالتفكير الناقد وحل المشكلات ومهارات التواصل والتعاون مع الاخرين ومهارات التفاوض والاستماع التي تساعد الطالب على استيعاب المعارف الجديدة، ويكون قادراً على اختيار المعلومة الصحيحة ورفض المعلومة التي لا تستقيم مع العقل والمنطق والتجربة، إضافة إلى أثرها المتنامي في أداء الأفراد في سوق العمل.

 

أصبح «التعليم المعتمد على الكفايات» واحداً من أهم النظريات التربوية التي تسعى دول العالم المتقدمة تعليمياً على تبنيها وتطبيقها في مدارسها، وهو أيضاً يحظى بمناقشات واسعة في ساحة الدراسات التربوية لتبيان أفضل السبل في تطبيقه وأنسب الأساليب في تدريب المعلمين وتهيئتهم لتغيير وتطوير قدراتهم التدريسية والاشرافية، وما ذلك إلا بسبب ما يعد به منهج الكفايات من تطوير حقيقي في العملية التعليمية، إذ تميّز ببناء عمليات التعليم والتعلم على التقويم التكويني بمعرفة استعدادات الأفراد أولاً ثم مراعاة مستوياتهم التحصيلية لينال كل فرد ما يحتاجه من العملية التعليمية ويتعلم الجميع، ولأنه يوظف الموقف التعليمي الواحد لإكساب الفرد مهارات متعددة، معرفية وغير معرفية، (كفايات).

 

إن تغيير فلسفة التعليم والتعلم في مدارسنا تتطلب جهداً كبيراً، لأن طبيعة البرامج التي أسهمت في تأهيل المعلمين كانت في غالبها تسير وفق نمطية تقليدية تهتم بالشرح والإيضاح وتضع المعلم في منطقة المركز من العملية التعليمية، وتعتبر الطلاب جميعهم متماثلون في القدرات العقلية والذهنية والسلوكية، ولهذا يتم تقويم تحصيلهم على معيار محدد في الاختبارات، فمن يتجاوز هذا المعيار يحصل على بطاقة الانجاز والنجاح.

 

أما مفهوم التعليم المعتمد على «الكفايات» فهو يقر بأن لكل طالب قدراته الخاصة وإمكاناته العقلية المختلفة ولكل طالب طريقته الخاصة في التعلم، وبالتالي فإن تطوير قدرة المعلم ليتعامل بشكل صحيح مع هذه الاختلافات مطلب أساس لنجاح عملية التعليم والتعلم.

 

لو أخذنا بعض الأمثلة على التعليم المعتمد على المحتوى: ففي مادة اللغة العربية (لغتي) للصف الثالث الابتدائي فبعد أن يقرأ الطالب نصاً عن «البحار» أحمد بن ماجد، تأتي الأسئلة المباشرة التي لا تحفز لدى الطلاب سوى مستوى محدود من التفكير مثل: بم اشتهر أحمد بن ماجد؟ وأين عاش ابن ماجد؟ وما هو اللقب الذي أشتهر به؟ وغيرها من الأسئلة المباشرة، بينما يمكن للمعلم في طريقة التعلم المعتمد على «الكفايات» أن يستعين بمقطع فيديو لرحلة بحرية، وينشط حواراً بين الطلاب حول صعوبات العمل في البحار والمخاطر التي يتحملها البحّارون في عملهم، مع إجراء مقارنات بين العمل في البحر في زمان أحمد بن ماجد وزماننا هذا، وبعد ذلك يطلب من كل طالب أن يعيد كتابة النص بطريقته الخاصة مع رسم بحر هائج بالأمواج، ويقوم المعلم بمساعدة الطلاب الذين يجدون صعوبة في الكتابة ببعض الجمل المحفزة لهم.

 

وعند استعمال التعليم المبني على الكفايات في درس الأفعال الناسخة، يمكن أن يقوم بعض الطلاب بقراءة نص لغوي يحوي أفعالاً ناسخة بصوت جهوري أمام زملائهم، بحيث يتحدث النص عن قيمة الوطن والحفاظ عليه، وهنا يعمل المعلم على تنمية قيمة المواطن المسؤول لدى الطلاب، وكذلك مهارتي الإنصات والتحدث.

 

ويقوم الطلاب بالنقاش في ما بينهم باللغة العربية الفصحى حول قضية خلافية بشرط استعمال الأفعال الناسخة، لتنمية مهارتي التواصل واحترام الآخر وكذلك مهارتي الإنصات والتحدث. ويعمل الطلاب في شكل مجموعات على نص مكتوب يحوي أخطاءً لغوية متعلقة بموضوع الدرس لإعادة صياغته بعد تصحيح الأخطاء، لتنمية مهارات حل المشكلات والتفكير الناقد والتعاون، إضافة إلى المهارات المعرفية المتعلقة بالفهم القرائي والكتابة.

 

وفي كل ذلك، ينبغي أن يدير المعلم عملية التعلم استناداً إلى المستويات التحصيلية السابقة لكل طالب من الطلاب، كما ينبغي أن يوظف أدوات تقويم موثوقة.

 

لا شك أن عملية التحول إلى التعليم المعتمد على «الكفايات» تتطلب جهداً مشتركاً بين عناصر العملية التعليمية كافة، كما أنها تتطلب وقتاً أطول من كل مشاريع التحول الأخرى؛ لأنها تبني مداخل جديدة وفهماً أوسع وأعمق للعملية التعليمية، ومن أجل ذلك سعينا للاستفادة مِن الخبرات الدولية التي مرت بتجارب مماثلة، فاخترنا للمشاركة في هذه الرحلة فريق عمل من الخبراء من جامعة ميلبورن الأسترالية بقيادة البروفيسور باتريك قريفن الذي ألف وحاضر وقاد فرق عمل دولية في تأطير هذا المفهوم وفي كشف أهميته التعليمية والتربوية.

 

ولدعم جهود الوزارة في التطوير المهني للمعلمين قمنا أيضاً بالتعاقد مع شركة Learning First الأسترالية للقيام بإعادة هيكلة للمركز الوطني للتطوير المهني ولتأسيس المركز على أسس علمية رفيعة المستوى ولتتكامل الجهود مع تدريب المعلمين خارج المملكة في برنامج خبرات الدولي الذي أسهم حتى الآن في تدريب أكثر من 15 ألف معلم ومعلمة في ستة بلدان متقدمة تعليمياً.

 

إن جهود عملية التحول تسير بخطى حثيثة ومتسارعة، ولكن نتائجها في مستوى تحصيل الطلاب وتقدمهم العلمي لن تظهر إلا بعد سنوات، فالغرس لايزال تحت التربة وبانتظار أن نجني ثماره بعد حين بإذن الله تعالى، والله ولي التوفيق.

*كاتب المقال

أحمد العيسى

وزير التعليم السعودى