الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

مستقبل التعليم بعد الـ"كورونا"

الأحد 10/مايو/2020 - 12:58 ص

عندما كتبت منذ أشهر قليلة عن توجهات التعليم الجديد في القرن ٢١ وربما ما بعده، لم يكن في خلدي اطلاقا اننا علي بعد ساعات قليلة من انتشار وباء الكورونا علي هذا النطاق الواسع ليثبت للجميع ان النظريات التربوية القديمة القائمة علي "التعليم" المحصور داخل جدران الفصول الدراسية (تصميما وتدريسا وتقويمًا) لم يعد قادرا علي تحقيق اهداف التعلم المرجوة في نظم تعليم المستقبل عندما يتخرج الطلاب من واقع الفصول الدراسية المصطنع الي واقع الحياة بكل تعقيداتها ومواقفها المتغيرة.


وبات اكثر وضوحا من اَي وقت مضي ايضا ان "التعلم" المحصور في علاقة الطالب "الافتراضية" بمصادر التعلم التي توفرها التكنولوجيا الحديثة وهو داخل جدران غرفته لن ينجح كذلك في اعداد الطالب وإكسابه مهارات القرن ٢١ والتي سيحتاجها بكل تأكيد عندما يترك غرفته وعالمه الافتراضي الي واقع عملي يختلف تماما عما كان يظن او نظن.

 

لا اتحدث بالطبع عن فكرة "التعليم عن بعد" التي وجد العالم نفسه مضطر اليها بعد إغلاق المؤسسات التعليمية في معظم دول العالم (مليار ونصف مليار تلميذ وطالب وجدوا أنفسهم فجأة محبوسين في بيوتهم لفترة لا يعلمها الا الله)، فعن ماذا اتحدث اذن؟؟ وما علاقة كل ذلك بوباء الكورونا الذي يجتاح العالم الان؟؟

 

قد تبدو العلاقة بين الأمرين بعيدة عن اَي تصور .. لكنني سوف اكتفي بالإشارة الي ملمح واحد من خصائص التعليم الجديد (تعليم المستقبل) وهو ملمح اولوية الدفع بما بات يعرف بمصطلح "مهارات القرن ٢١" في مكونات المناهج الدراسية لكل البرامج التعليمية وفي كل المستويات والتخصصات المهنية وسياسات تأهيلها .. يعني ايه؟؟


يعني التوقف عند مهارتين من مهارات القرن ٢١ أراهما كانتا حاكمتين في اداء القيادات السياسية والحكومات وحتي الشعوب عبر العالم بعد ان اختبر الكورونا الخطير هذا "الأداء" اشد اختبار من اليابان والصين وكوريا وسانغافورة شرقا الي امريكا وإنجلترا وإيطاليا وألمانيا غربًا مرورًا بايران و السعودية والإمارات ومصر وسطا. اتحدث هنا عن مهارة "تحمل المسئولية" ومهارة "القدرة علي اتخاذ القرار" .


وهي مهارات قد ننظم برامج دراسية وتدريبية لايام عديدة لإكسابها لطلابنا داخل الفصول الدراسية او عن طريق التعلم الالكتروني، ثم نختبر "نقوم" الطلاب فيما اكتسبوه لينجحوا ويحصلوا علي شهادات اكتساب المهارات المهنية .. لكن عندما يخرج هؤلاء الطلاب لسوق العمل او للمجتمع في العالم الحقيقي (وليس العالم المصطنع داخل الفصول الدراسية او في فضاء الانترنت) ويطلب منهم تحمل مسئولية ما او اتخاذ قرار ما نجدهم وكأنهم لم يتدربوا او يتعلموا يوما اَي شئ عما هو مطلوب منهم اكتسابه من هذه المهارات.

 

ولكي اربط كل ذلك بوباء الكورونا العالمي ارجو ان تحاولوا معي تحليل سرعة او تراخي استجابة الحكومات (قيادة سياسية - رئيس وزراء - وزراء) والشعوب في تحمل المسئولية واتخاذ القرارات المناسبة لكارثة الكورونا في الدول التي اشرت اليها اعلاه، وكيف ان الاختبار الحقيقي في ارض الواقع هو "التقويم" الانجع لمدي قدرة الحكومات والشعوب بمكوناتها المشار اليها "مجتمعة أو منفردة" علي "تحمل المسئولية" و "اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب"، صحيح ان العوامل التي تؤثر في كليهما لا تقتصر فقط علي "التعليم" الجيد، وانما تمتد للاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، وربما الخلفية المهنية لمكونات الحكومات والأفراد التي اشرت اليها، وقطعا لا نحتاج لكارثة مثل كورونا لكي نختبر بها مهارات القرن ٢١ وجودًا وعدمًا في منظوماتنا التعليمية وبالذات التقويم!!.


لكن القصد هنا ان التعليم الجديد يحتاج لان نخرج به الي الواقع الحقيقي للتطبيق (مثلما حدث جزئيا في المشروعات البحثية التي قررتها الوزارة وحسنا أنها فعلت كبديل لامتحانات الفصل الدراسي التقليدية)، والا نكتفي ابدا بتقديمه وتقويمه داخل جدران الفصول المدرسية او فضاءات الانترنت من خلال مجرد اختبار الطلاب في قدرتهم علي اختيار فقاعة صحيحة من اربع فقاعات (امتحانات اولي وثانية ثانوي الالكترونية) وفق منظومة "ام سي كيو" التي كانت تعتمد عليها امريكا في كثير من امتحاناتها مثل "السات" وغيره ثم نسمي ذلك تعليما حديثا ((امريكا بدأت في تغيير نظم التقويم مؤخرا).

 

تعليم المستقبل لن تختبر أو "تقوم" مخرجاته الا في ارض التطبيق العملي في العالم الحقيقي وليس العالم الافتراضي (الانترنت) او داخل جدران الفصول الدراسية، وأظن ان وباء الكورونا بين لنا بجلاء مدي ما تتمتع (او لا تتمتع) به الحكومات بكل مكوناتها والشعوب بفسيفسائها من مهارات تحمل المسئولية والقدرة علي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، واعتقد ان الارقام الخاصة بوباء الكورونا في البلدان التي اشرت اليها هي "درجات" معكوسة لمدي نجاح الحكومات في أخذ مواقفها المناسبة في الاوقات المناسبة (الارقام الأقل مع معدل الزمن الأطول وعدد السكان الاكبر) ترتب الحكومات من الأكثر نجاحا الي الأقل، والشعوب تأخد ذات المنحني بدرجة او باخري، واعتقد ان امريكا والدول "الليبرالية" التي تزن الأمور بميزان "النفعية" الفردية المباشرة قد فشلت فشلًا ذريعًا عندما اصطدمت بمواجهة كارثة الكورونا علي ارض الواقع فجأة دون سابق إنذار، بينما الدول "الأيديولوجية" التي تزن الأمور بميزان "المصلحة" الجمعية للشعوب (ومنها مصر) فقد نجحت بدرجات متفاوتة في الاختبار الصعب مع بعض الاستثناءات هنا وهناك بطبيعة الحال.


علي كل حال لا نملك في النهاية الا ان نبتهل الي المولي عز وجل ان يحفظ بلادنا والدنيا كلها من كل مكروه وسوء، وان يخرج العالم من هذه التجربة القاسية وهو اكثر ايمانا بقدرة "الله" خالق هذا الكون التي لا يحدها شئ فنصير اكثر تواضعا، وان  التعاون الأممي القائم علي العدالة و القيم الانسانية الرشيدة هو العقد الاجتماعي الجديد الذي يجب علي البشرية ان تعيد صياغته، وان "التعليم المؤنسن" اَي الأكثر ترسيخًا للقيم الانسانية هو الملاذ والوسيلة والهدف لاعاد بناء الانسان العالمي من جديد!.