الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

"التعليم بعد الكورونا - ٢"

لاتركبوا موجة كورونا .. التعليم عن بعد استثنائى

الثلاثاء 12/مايو/2020 - 12:05 ص

يبدو ان وباء الكورونا لم يجتح العالم صحيا فقط وانما توسعت دائرة الاجتياح لتشمل معظم أنشطة الحياة الانسانية بكل أنواعها الاقتصادية والتجارية والسياحية والتعليمية، ولان الوباء اجتاح العالم فجأة ودون سابق إنذار،

ولان الدول وجدت نفسها في قلب العاصفة دون مقدمات، ولان الفيروس الخطير تميز عن غيره من عائلة الكورونا غير الكريمة بشدة انتشار العدوي من الانسان للإنسان عن طريق الرذاذ التنفسي، فلم يكن هناك حلول سريعة ومؤثرة سوي الاجراءات الوقائية المتمثلة في الحد من فرص اقتراب الأشخاص من بعضهم البعض وبالذات في الانشطة التي تتميز بالكثافات البشرية وعلي رأسها المدارس والجامعات وملاعب كرة القدم

 فكان القرار الذي أجمعت عليه معظم دول العالم هو تعطيل الدراسة في المدارس والجامعات الي ان تنجلي الأزمة، وهي اجراءات وقتية بطبيعة الحال، لكن لان "التعليم" عملية متكاملة تبني أهدافها التعليمية صف دراسي بعد اخر

فكان لزامًا علي مؤسسات التعليم ان تتخذ القرارات المناسبة للتكيف مع قرار إغلاق المدارس وفي نفس الوقت تنظيم العملية الدراسية بشكل ما او بآخر للطلاب وهم في بيوتهم، وكان الحل السريع الممكن هو توظيف أدوات "التعلم عن بعد" وأساليب "التعليم الالكتروني" لهذا الغرض علي اعتبار انها فترة مؤقتة وستنتهي بعد عدة أسابيع او عدة شهور علي الأكثر، وكان الغرض الاساسي من تطبيق آليات التعليم عن بعد او التعليم الالكتروني (وهو نوع من التعليم غير النظامي يقدم لمن تمنعهم ظروفهم من الحضور المنتظم للمدارس او الجامعات) هو أنقاذ ما يمكن إنقاذه من عمر العام الدراسي الذي توقف فجأة تحت وطأة الوباء، وأهم مميزات هذا النوع من التعليم (عن بعد او الكتروني) هي إمكانيات التواصل الانساني والشخصي بين المعلم والمتعلم في اَي وقت طوال اليوم

فضلا عن إمكانية تنظيمه لاعداد ضخمة من الطلاب في اَي مكان دون ان تواجهنا تحديات الكثافات الطلابية او نقص المدرسين في الفصول المدرسية الطبيعية، وعلي الجانب الاخر فلهذا النوع من التعليم عن بعد او الكتروني العديد من المحددات والسلبيات التي تجعله الاختيار الثاني والاستثنائي دائما مقارنة بالتعليم التقليدي المدرسي والجامعي النظامي بطبيعته، ومن اهم هذه السلبيات ان دور المدرسة "الطبيعية" أو الجامعة هو بالاساس دور تربوي قبل ان يكون دور تعليمي، واهداف العملية التعليمية ذاتها في كل المراحل تتمحور (ويجب ان تتمحور) حول "بناء الانسان" معرفيا ومهاريا وسلوكيا وقيميًا، ولا تقتصر اهداف العملية التعليمية ابدا علي مجرد صقل "المعارف" من خلال الاطلاع والدخول لمصادرها الالكترونية التي تتيحها الشبكة العنكبوتية الدولية (الانترنت) للطلاب وهم في اسرة نومهم!!.

 

ومن هنا كان التعليم المدرسي والجامعي النظامي هو الأساس في كل دول العالم، وكان التعليم عن بعد أو الالكتروني هو الاستثناء الذي يطبق حين تحتم الظروف تطبيقه كما هو حادث الان مع الكورونا، لكن ما ان تنتهي الظروف الراهنة فسوف تعود العملية التعليمية حتمًا للطبيعي والأساسي من أنواعها (التعليم المدرسي النظامي)، وسوف يبقي الاستثنائي (التعليم عن بعد او الكتروني) استثنائي كما هو، ولن تتبدل الأدوار كما يبشرنا بعضهم حاليا ركوبا لموجة الكورونا وحمي الوباء التي يبدو انها أخذت في اجتياح العقول قبل الاجساد، لا يعني ذلك ابدا الا يستفيد هذا النوع من التعليم او ذاك من الإمكانيات التي يتيحها النوع الاخر في تطوير آلياته وأدواتها وأساليبه التدريسية بتطبيق ما بات يعرف بالتعليم المخلوط (blended)، لكن الاحلال الدائم للتعليم عن بعد أو الالكتروني (غير النظامي) بما يتميز به من "سهولة" نسبية وقلة تكلفته وعوائده المادية الكبيرة محل التعليم المدرسي (النظامي) بتكلفته العالية وتحدياته -وليصبح الاول هو "الأساس" وليس الاستثناء كما بشرنا بعضهم مؤخرا- أقول ان هذا الإحلال ان حدث فهو يعكس عدم ادراك او قصور في فهم المقاصد والاهداف التربوية والإنسانية للعملية التعليمية برمتها، ولا يعدو هذا "الإحلال" ان زادت رقعته عن كونه ركوبا لموجة الكورونا والصيد في ماء "التعليم" العكر والهروب "المقنع" من اشكاليات وتحديات التعليم المدرسي النظامي التي يجب علينا مواجهتها وليس الهروب منها، لان الهروب غالبا ما يكون ايسر الحلول البائسة!!.

 

ولكي يكون ما نكتبه مبنيًا علي قواعد من المنطق والحقيقة استعرض معكم نتائج دراسة بحثية استقصائية اجراها مركز بحثي دولي يعرف بالحروف الانجليزية (بي دبليو سي) PwC تضمنت استطلاع رأي حوالي ١٠ الاف شخص في الصين وألمانيا وإنجلترا وأمريكا والهند حول أهم المهارات التي يفتقر اليها او يجب ان يتزود بها الطلاب في النظم التعليمية في هذه الدول، وقد جاءت النتائج مذهلة، حيث تصدرت المهارات الحياتية والسلوكية الانسانية المشهد تماما، احتلت المرتبة الاولي مهارة "القدرة علي التكيف مع الظروف المختلفة" بنسبة ٨٦٪؜، تليها مهارة "القدرة علي مواجهة وحل المشكلات" بنسبة ٨٥٪؜،  ثم مهارة "التعاون والمشاركة" بنسبة ٨١٪؜، ومهارة "الذكاء الاجتماعي" بنسبة ٧٦٪؜، ومهارة "الابتكار والإبداع" بنسبة ٧٤٪؜، ومهارة "القيادة واتخاذ القرار" بنسبة ٦٩٪؜، والمهارات "الرقمية" بنسبة ٦٩٪؜، ومهارة "ادارة الأزمات" بنسبة ٦٠٪؜، ثم جاءت مهارات "العلوم والرياضيات والتكنولوجيا" وللغرابة الشديدة في المرتبة التاسعة وقبل الاخيرة بنسبة ٥٣٪؜، وانتهاء بمهارات "ريادة الاعمال" (ربما لان المستطلع رأيهم كانوا في معظمهم من مؤسسات الاعمال الكبيرة) في المرتبة الاخيرة بنسبة ٥٠٪؜.

 

الخلاصة ان هذه الحزمة من المهارات كما ترون يصعب جدا إكسابها للطلاب الذين هم في "عمر التمدرس" وهم في حجرات بيوتهم او في أسرة نومهم، لانها كلها مهارات تعتمد كفاءة اكتسابها علي التفاعل الانساني وجها لوجه بين المعلم والمتعلم وفِي بيئة حياتية واقعية وليست "افتراضية"!!

وقد نضطر لهذا النوع من الحلول المؤقتة تحت ضغط الظروف الحالية لوباء الكورونا، لكن لا يجب ان نبقي فيها كثيرا لكي لا نتعود علي سهولتها وربحيتها رغم سلبياتها، ولكي لا نتواكل عن ايجاد حلول حقيقية لمشكلات التعليم المدرسي النظامي الذي هو الأساس في رحلة ومهمة بناء الانسان كما يجب ان يكون.