الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

فقه الانترنت !!

الثلاثاء 12/يناير/2021 - 08:49 م

لقد باتت الحاجة ماسّة حاليًّا إلى دراسة ما يشيع بثّه ومُمارسته على شبكة المعلُومات الدولية [الإنترنت] من وجهة نظر الفقه الإسلامي. فمن المسلّم به أن قطاعاً ضخماً من شباب المُسلمين يتعاملون حالياً مع هذه الشبكة بأشكال متعددة، وقد لا يخطُر ببالهم أن لممارساتهم أحكاماً شرعية لم يسبق التعرض لها في كتب الفقه الإسلامي، أو محاضراته، تعرضاً مباشراً، مما قد يُوقع بعضهم في شُبهة أو أكثر من تلك الشبُهات التي أشار إليها الحديث النبوي الصحيح: (الحلالُ بيّن والحرامُ بيّن، وبينهما أمور مشتبهات ...).

فقد يقر في بعض الأذهان أن كل ما يقوله المتعامل مع الشبكة كتابة , لا يدخل ضمن ما سيسجل عليه . بشبهة أنه لم يتلفظ به ! أو أن أحكام الغيبة المعروفة لا تنطبق على المكتوب  وغير ذلك من وسائل التلبيس .

وخيرُ بداية لهذه المناقشة أن نحصُر ما يمكن حصرُه من ممارسات تتم عادة من خلال استعمال هذه الشبكة الدولية في أربعة مجالات رئيسة هي:

1- المحادثة والمراسلة.

2- الاطلاع والبحث العلمي.

3- الترفيه والتسلية.

4 – البيع والشراء

وإذا اعتبرنا هذه المجالات الأربعة هي المجالات الأكثر شيوعاً؛ فإن هناك مجالات أخرى أقل شيوعاً في بُلداننا الإسلامية لا يعنينا التعرض لها حاليا. .. وسنُنَاقش فيما يلي كلا على حدّة:

أولاً: مجال المحادثة والمراسلة:

يضُمّ هذا المجال ما يُعرف بغُرف المحادثة (Chatting) سواءً أكانت بالكتابة أم بالصوت باستخدام وسائل صوتية (Mic) وأحياناً باستخدام كاميرا  تُلحق بالحاسوب فتنقل صور الطرفين

أو أحدهما على الطرف الآخر، مع ما في ذلك من احتمالات للإغواء والفتنة، وغالباً ما يكُون استعمال هذه الغُرف بغرض الترفيه والتسلية، ولكننا أفردناه كمجالٍ خاص بعيد عن التسلية والترفيه؛ لأن منه جانباً مهماً قد يكُون اللجوء إليه لقضاء الحاجات على اختلاف أهميتها بالنسبة للأفراد. وهذا الجانب هو المراسلة البريدية الإلكترونية ( E-Mail) والتي تُوُسِّعَ في استخدامها حالياً حتى كادت تصبح ضرُورة عصرية فرض استخدامها عصر السُّرعة وطبيعته من جهة، وبطء البريد التقليدي (الورقي) وما يتعرض له من ضياع، أو انتهاك لما فيه من أسرار من جهة ثانية. وتتعلق بهذا المجال أحكام فقهية عديدة، فمثلاً:

1- حُكم المُحادثة بين الفتيان والفتيات الغُرباء، وما يشُوبُ تلك المحادثات من عبارات قد تترتب عليها عقُوبات شرعيّة أو أحكام شرعيّة مثل: الوعد بالزواج – القذف – اللّعن والسبّ – الكذب – الاتهام الباطل ... الخ.

2- حُكم المُحادثة بين الزوجين إذا تضمّن الحوار تلفظاً بالطلاق أو الإيلاء أو الظّهار أو القذف أو التبرّؤ من نسب الطفل، أو الإقرار بأشياء أو نفيها .. الخ.

3- حُكم المُحادثة بين أطراف متعددة إذا تضمنت: قذفاً عاماً، أو تكفيراً خاصاً أو عاماً، أو كذباً، أو تحريضاً على الفُجُورِ، أو تشجيعاً على إشاعة الفاحشة، أو عُدواناً على فرقة معينة من فرق المسلمين، أو رجماً بالغيب، أو ممارسة للسحر أو تشجيعاً عليه، أو وعداً بالرّشوَة، أو تضليلاً في الفتوى، أو تشكيكاً في العقائد، أو حضاً على ازدراء الأديان أو الرمُوز الدينية.

4- حُكم المُراسلة البريدية الإلكترونية إذا تضمنت أيا من  الأمور السابقة.

5- حُكم الإطلاع على العورات عن طريق الكاميرا.

ثانياً: مجال الاطلاع والبحث العلمي:

مما يُحمد لشبكة المعلُومات الدوليّة أنها استطاعت تيسير خدمات البحث العلمي، فالمواقع المختلفة تتنافس في تقديم خدمة البحث (Search) السريع، وتسعَى باستمرار لتجديد وتزويد محتوياتها. وقد صبح النشر الإلكتروني واحداً من أهمّ مجالات النشر الحديث للمعرفة العلمية بفُرُوعها المختلفة. فالكثير من الكتب، والدوريّات العلمية، والمجلات الثقافية أو الدينية أو الفنية المتخصصة، والصحف، تبثّ محتوياتها عَبر الشبكة؛ لتكون تحت بصر الباحثين، وفي متناول أيديهم، وغالباً ما يكون هناك إشارة إلى إمكانية –أو عدم إمكانية- استنساخ جزء أو أكثر من

المادة العلمية المبثُوثة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية: فإن كثيراً من شركات البرمجة التي تُنتج اسطوانات أو أقراصاً مدمجة لتسويقها تجارياً بهدف الربح، تُعلن عن منتجاتها على تلك الشبكة.

وتتعلق بهذا المجال أحكام فقهية مثل:

- حُكم الإعلان عن كُتب أو بُحوث إباحية.

- الأحكام المتعلقة بحقُوق المبدعين والمؤلّفين.

- التفرقة بين ما يدخل تحت عنوان "الحد الأدنى من العلم المشترك" الذي يحقّ لكل مسلم الأخذ منه دون إذن صاحبه، وما يدخل تحت عنوان "الجهد العلمي الخاصّ الجدير بالصيانة.

- حُكم الكذب والتلفيق وإهدار الأمانة العلمية.

- حُكم التزوير والتزييف في عرض المعلومات أو نشرها أو اقتباسها.

ثالثاً: مجال الترفيه والتسلية:

وهذا المجال من أكثر المجالات شيوعاً بين الشباب المُسلم، وهو ما يُؤسف له حقاً، إذ إن كثيراً من المواقع تُعنى بهذا المجال بهدف استقطاب الشباب لارتياده، وهي في سبيل ذلك تعرض الصور الفاضحة، والأفلام الهابطة، والكتابات الساقطة، وعناوين أماكن ممارسة الرذيلة، فضلاً عن التّافه من المسرحيات أو الأفلام الناطقة أو الصامتة والرسوم، والأغاني المصحوبة بالرقصات الماجنة، والكلمات المهيجة للغرائز.

ويندُر أن يكون في هذه المواقع الموبوءة خيراً، باستثناء ما قد توفره بعض المواقع من فنونٍ راقية للتسلية تعتمد على الذكاء، أو تلبّي حاجات عقلية راقية.

ويترتب على التردد على هذا المجال أحكام فقهية عديدة منها:

- حُكْمُ إهدار الوقت في هذه المُتعة المحرّمة.

- حُكْمُ إهدار المال فيها أيضاً.

- حُكْمُ النظر إلى الصور العارية.

- حُكْمُ الاستماع إلى الأغاني الخليعة.

- حُكْمُ قراءة الكتابات الشاذة المُفسدة للأخلاق أو كتابتها.

رابعاً: المجال التجاري:

وهو مجال قليل الاستعمال في البُلدان العربية والإسلامية نظراً لحداثته، ولكن الغالب فيه أن يكون البيع والشراء بواسطة بطاقات الائتمان Credit Cardsعن طريق ملء استمارة موجودة على الشاشة، وتزويدها برقم البطاقة التي يملكها المشتري، ومن ثمّ يقوم البائع –فرداً كان أو شركة- بسحب المبلغ وإرسال السلعة المُعلن عنها إلى المشتري بالطريقة التي يتفقان عليها.

وهذا المجال من أكثر المجالات خطراً على الشباب المسلم، إذ إن الأساليب الفنية التي يملكها الآخرون قد تمكنهم من سرقة رقم بطاقة الائتمان، ثم القيام بالسحب عليها من أي مصرف، وهنا يحتاج الشباب المسلم إلى معرفة الكثير من الأحكام الفقهية المتعلقة بالبيع والشراء والدعاية والإعلان مثل:

- حُكْمُ الغشّ التجاري في السلعة ذاتها، لا سيما إذا كان البائعان –بمعنى البائع والمشتري- لم يلتقيا وجهاً لوجه ولم يتم البيع يداً بيد.

- حُكْمُ بيع سلعة معيبة وتسلّم ثمنها قبل تسليمها.

- حُكْمُ الغشّ في الإعلان عن السلعة عن طريق المبالغة في عرض مزاياها، وغضّ الطرف عما فيها من عيوب.

- حُكْمُ سرقة أموال الغير عن طريق سرقة رقم بطاقته.

حُكْمُ بيع أو شراء الأشياء المحرّمة.

 إن مُمَارسة أي أمرٍ من الأمُور السابقة بطريق المُحادثة أو المراسلة يصعب إثباته شرعاً لعدة أسباب:

أ – الصعوبة الفنية المتعلقة بإمكانية محو أو تغيير ما يحمله الجهاز من معلومات على القرص الصلب (Hard Disk)، ومن ثم إمكانية إنكار المتهم لما يُنسب إليه.

ب- انعدام الشهود العدُول في حالات مثل القذف أو اللّعن أو التطليق أو التبرّؤ من النسب.. الخ.

جـ- ادعاء أن ذلك إنما كان على سبيل اللّهو واللّعب ولم يُقصد به إلى ظاهره.

هذه الصعوبات الثلاث قد تعطل -قضائياً- تنفيذ الحُكم الشرعي في مُرتكب أي فِعلة من الأفعال السابقة.

لكنّ المسؤولية الدينية (ديناً لا قضاءً) تبقى عالقة بصاحب هذا الفعل، مُثبتة في صحائف أعماله؛ لأن من السلوكيات ما يكون مداره على (النية) ومنها ما تكُون العبرة منه بظاهر اللفظ على خلافٍ بين الفقهاء، ولذلك نُحَذِّر شبابنا بشدّة من التورّط فيما أشرنا إليه من مزالق قد ينزلقون إليها –بجل أو تساهل- حين يدخلون غرف المحادثة، ويستهويهم السمر والعبث, أو يُمارسون المراسلة الإلكترونية دون رقابة من الضمير.إن المسلم في جميع أحواله لا ينفك عن تعاليم دينه التي رسمت له طرق الفضيلة والسمو السلوكي والرقي الخلقي ومنها – على سبيل التمثيل –ما وسع داثرة معاملات المسلم الاجتماعية كما في قوله تعالى  :

{وَاَعْبُدُوا اللهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الجُنُبِ وَالْصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} [النساء/ 36].

كما أن هناك آيات حددت علاقات المسلم داخل بيته , ومع أهله , كقوله تعالى:

{يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثَ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحُ بَعْدَهُنَّ} [النور/58]،

 {يآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات/ 11].

وقد حرص الإسلام بصفة خاصة على تربية المرأة المسلمة على الفضائل الخلفية: مثل الحفاظ على التستر، وعدم إظهار العورات، فقال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور/ 31].

وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الأحزاب/ 59].

-

إن المجامع الإسلامية المعاصرة مدعوّة إلى التخطيط المُشترك لعقد عدد من المُؤتمرات لمناقشة كل جزئية من الجزئيات السابقة في إطار عدد من الضوابط العامة، ومن أهمها:

1- مراعاة أن كل وقت يقضيه المسلم، أو مال يُنفقه، أمام هذه الشبكة خاضعٌ للسؤال عنه لحديث (لا تزول قدما عبدٍ حتى يُسأل عن أربع ...).

2- إن هذه الشبكة –بخدماتها المتميزة- أصبحت مما "تعمّ به البَلْوَى" لشدّة الحاجة إليها.

3- إن جميع المُعاملات على الشبكة يتعذر التحقق من أطرافها لوجُود صعوبات فنية تتعلق بذلك.

والله من وراء القصد، وهو حسبُنا ونعم الوكيل؛؛؛؛