الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

الأنوميا و الضمير و المنطق العملي في تطوير التعليم العالي

الأربعاء 06/أبريل/2016 - 02:19 م

رحم الله الكاتب و السيناريست العظيم اسامه انور عكاشة، حينما جسد لنا القضية في مسلسل ضمير ابله حكمت ، فقد كتب عكاشة سيناريو تربويا تلعب فيه الفنانة الراحلة فاتن حمامة دور ناظرة مدرسة مثالية، لديها رؤية وفكرة لإصلاح المنظومة التعليمية، ورغم عشرات المشكلات والعوائق التي واجهتها إلا أنها لم تتخلى عن إيمانها بالمبادئ و القيم و المثل العليا، حتى بعد أن تم احالتها إلى التقاعد و الاتيان بناظرة بدلا منها.  لذلك احببت ان ابدأ مقالتي بهذه اللقطة الفنية العظيمة و التي تحك العديد من المشاعر و قيم الانتماء الى المهنة و العمل المؤسسي لكل من له قلب، و تحفز التفكير  و النقاش حول "اين يكمن الجذر التكويني لما اصبحت عليه الحالة غير المرضية للتعليم العالي و مؤسساته ؟"  

ان هناك الكثير من الاجابات، غير ان توغلاً أعمق في التربة النفسية قد يحقق رؤية تحليلية على مستويات التشخيص والتسبيب والعلاج. فناهيك عن جذر الفساد، فهناك مصطلح اكثر إجرائية من الناحيتين المفاهيمية والقياسية  هو "أزمة الضمير المهني".  يعني غياب القاعدة المعيارية الداخلية لدى الفرد  و التي تدفعه للالتزام بالمواصفات والشروط الأخلاقية التي تفتضيها ممارسته لمهنته، كتبني الأمانة والصدق مثلا،  فالأكاديمي  يمكن أن يكون متعمقاً في اختصاصه وكانزاً لمعرفة واسعة فيه، دون أن يكون حريصا على  تنمية الشخصية العلمية لطلبته أو ترجمة ذخيرته المعرفية والمعلوماتية إلى ثقافة واقعية لها تأثيرها الإيجابي في الحياة اليومية، وهذا هو الفساد الأكاديمي. و ليس هذا فقط هو المثال الفريد، فهناك كثير مثل الطالب الغشاش، و الاستاذ المتجهم و المدير المتسلط و ايضا من المظاهر السلبية عن هذا  هناك بالدروس الخصوصية، و التحرش الجنسي...الخ. كل هذه السلوكيات جميعا ما هي الا انعكاسا لما يدور في البيئة الاجتماعية من ممارسات لا يتقيد أصحابها بالشروط اللازم توفرها في الوسائل لتجعلها مشروعة. 

لذلك، ان نظرة فاحصة لما هو عليه حالة التعليم العالي و مؤسساته، لا تظهر  في جوهرها إلا تآكل في الضمير المهني بمظاهرة الثلاثة (انهيار قيمة الوقت، وتفشي سلوك الخداع، وتدهور الثقة الاجتماعية المتبادلة)، الامر الذى اعزاه عالم السيسيولوجيا الفرنسي  الشهير دوركايم  الى ما يطلق علية  "الأنوميا" Anomie (اللامعيارية)، أي حالة الانهيار للمعايير المجتمعية التي تحكم السلوك،  او عدم الثقة بوجود معايير مؤكدة أو سلم قيمي راسخ يمكن الركون إليه لفرز الخطأ من الصواب، إذ تبادلت "الرذيلة" و"الفضيلة" أدوارهما القيمية الاجتماعية المعهودة. إن هذه اللامعيارية ادت الى إكساب الشخصية الاجتماعية عدداً من الخصائص الدفاعية السلبية في إطار سلوكها المهني، مثل الجشع، واللامبالاة،  و كذلك اللجوء إلى خداع الآخرين كوسيلةً لتحقيق المنافع ما دامت النزاهة "لا تؤتي" ثمارها. ومن هنا فقد ترسخ لدى الافراد مبدأ أن الحقوق المهنية لا تتحقق بفعل الكفاءة  بقدر ما يتم الوصول اليها بدعم  الاقرباء و الاصدقاء و الموالين  الذين لا يشعرون بالتناقض الأخلاقي والقيمي حين يسعون لتقديم هذا الدعم! وهو ما يجعل هذا النوع من الممارسات غير الأخلاقية داخل مؤسسات العمل مبررة أخلاقيا !!

إن انتشار هذه التناقضات يقوض القيم المهنية الحقيقية ليتكون نوع من ثقافة العمل الخاصة والتي ربما تكون مسئولة إلى حد كبير عن عدم الشفافية و هذه الفوضى القيمية والإنتاجية التي تلوي عنق كل خطط التنمية  و الاصلاح المرتقبة في هذه المنظومة، فتلك الظروف تعجز عن قيادة الأفراد إلى مواقعهم المناسبة, فتنشأ عنها صعوبات التكيف الوظيفي, و هذا بدوره يؤدي إلى الإحباط و عدم الرضا عن المنظومة, و من ثم يكون فاتحة لتطور تدريجي – تراكمي لمفاهيم جديدة ذات مضامين " سلبية ", تؤدي في النهاية إلى انتشار الفوضى من خلال سعي بل تسابق الأفراد إلى تحقيق أهدافهم المشروعة بطرق غير مشروعة.

إن حديثنا هذا عن محاكمة عادلة لمنظومة التعليم العالي، حديث دعت إليه المساندة الصادقة و النقد البناء و الرغبة الوطنية الخالصة لتصفية الأجواء الملبدة التي أصبحت تخيم على  هذا القطاع،  وأيضا لوضع القاطرة على السكة الحقيقية من أجل القيام بإصلاح حقيقي لا ترقيعي كما عودتنا الحكومات السالفة، ذلك الإصلاح  الذى يجب أن تتوفر فيه  ليس فقط النيات الصادقة  بل و اعمال المعيارية في اختيار رجال يقدرون رسالة التعليم النبيلة و دوره  الحقيقي في حفظ الامن القومي و بناء و بقاء  الوطن.  

و قبل أن أختم، اسوق اليكم مقولة مالك بن نبي عند مناقشته لمشكلة الثقافة والنهضة في المجتمعات الإسلامية قوله: إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط، ومن هنا يأتي ما نحن عليه، فنحن حالمون ينقصنا المنطق العملي.

حمى الله مصر و مؤسساتها 

*كاتب المقال 

اد/ احمد الخطيب – جامعة سوهاج