رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

الجمال والتعليم

الثلاثاء 08/نوفمبر/2016 - 05:56 م

إن الجمال سمة مميزة من سمات هذا الوجود، يتجلى في كل مكان، وهو نوع من النظام والتناغم والانسجام ذو مظاهر وتجليات لا حصر لها، فالدقة والرقة والتناسق والتوازن والترابط، والشعور بالسعادة التي يبعثها الجمال في النفس، قد يستطيع الانسان التعبير عنها وقد لا يستطيع. وهذا يمثل درجتين مختلفتين من القدرات: قدرة الاحساس بالجمال، وقدرة التعبير عنه..

ولان الاحساس بالجمال الخارجي والداخلي هو إدراك معرفي، فإنه يمكن تعلمه. أما القدرة الأخرى للانسان والتي تعبر عن الجمال وتظهره وتبينه، فهي القدرة التي يتمتع بها الفنان مصورا كان أو أديبا، أو غيرهما من أصحاب القدرات الفنية المختلفة. وحيث أن العلم والتجربة قد أثبتا أن هناك الكثير من المعارف والهارات التي يمكن للانسان تعلمها، خصوصا في السن الصغير، تمكنه من زيادة قدراته في التعبير عموما، فإن كل إنسان فنان بدرجة من الدرجات. ويبقى التفرد في الفن للمواهب الخاصة التي ينفرد فيها إنسان عن الآخر..

عرف فيثاغورس الجمال بأنه جوهر آلية التناسق العددي التي تنطبق على أبسط الظواهر وأعقدها. والجمال عند العقاد هو حرية الحركة، وجمال الموسيقى كجمال الوجود يكمن في النسب والعلقات الرياضية، كما يكمن جمال الكون في الانسجام الدقيق بين حركة الكواكب والنجوم. والفن في الحضارة السلمية قد عبر عن قيمة جمالية مستمدة من الأشكال الهندسية والألوان، فكان تعبيرا عن روح جديدة وعقلية فلسفية لها طابعها الخاص..

إن الجمال وسيلة لتهذيب الانفعالات، وهو نوع من الحرية في الوجدان واي مفكر عاقل في تطوير التعليم عليه أن يضع مفهوم الجمال، كشيء يمكن إدراكه، ضمن اهتمامات الدراسة والمعهد التعليمي، لأن وظيفتنا كما قلت دائما هي بناء القدرات. إن إدراك الجمال بكل ما له من أثر نفسي يرفع من مستوى البشر، يمكن أن توضع له قواعد في النظام التعليمي الذي يربى ويعد شباب مصر للمستقبل..

ايها السادة عندما تتمزق الروح، وينفصل العمل عن المتعة، ويغيب الشغف والإلهام، تتفكك الوحدة والتناغم، تكون الحاجة شديدة إلى الجمال وإدراكه أكبر وأكثر أهمية، ولا أعنى بذلك دراسة الفن لذاته، بل إنني آخذ ذلك إلى مرام أوسع من ذلك. وسآخذ الموسيقى كمثل. فالموسيقى هي أكبر الفنون تجردا عن الأهداف العملية، لأن وسيلتها في التأثير على النفس الإنسانية لا تخدم أغراضا خارجة عن نطاق الفن، فليس شأنها مثل شأن العمارة التي تستخدم في البناء، وتفيد في تحقيق أغراض أخرى غير مجرد إحداث البهجة الجمالية، إلا أنها في دراستها البسيطة تبنى الاحساس والمعرفة بالتناسق والتناغم، وتصل إلى علم الرياضيات من مدخل الجمال والمتعة، وتّكون مهارات ممارستها الدقة والجادة والمثابرة والالتزام، والتفرد الفردي والعمل في فريق، فأنا لا أنظر هنا للموسيقى بشكل مجرد، بل كأساس من أسس التعليم. كذلك الحال بالنسبة للكلمة، وسيلة الأدب والشعر، وغيرها من الفنون. التي قد تستخدم في غرض آخر غير مجرد خلق مجرد صور فنيه جميله..

إن هدفي أن تكون فلسفة الجمال بإدراكه الخارجي والداخلي أحد أهداف التعليم. وأن يكون مدخل الفن بأشكاله المختلفة، مندمجا في رؤيتنا لتطوير الإنسان داخل المؤسسة التعليمية. وكما يقول الأستاذ زكي نجيب محفوظ "الإنسان العادي من جمهور الناس، إذا عرف في حياته الجارية، كيف يفرق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء، فإن معرفته تلك تجعل منه انسانا افضل يفرق ايضا بين الخير والشر، فالخير دائما جميل.. 

وأعود مرة أخرى إلى أن طبيعة الإنسان، بدون التحريف الذي نفعله به في التربية السرية أو المناخ التعليمي، تنجذب إلى كل ما هو جميل، وقد ورد عن رسول الله (ص) "إن الله جميل يحب الجمال"، وقد شاءت قدرة المبدع الخالق سبحانه وتعالى، أن يجعل من الجمال _في شتى صوره _ مناط رضا وسعادة لدى الإنسان. إن استساغة الجمال حق مشاع للجميع لا يحتاج الإنسان فيه أن يكون ذو مركز أو صاحب سطوة أو مال ليتمتع به..

والجمال ليس قيمة سلبية، ولكنه ينبع من قوة مبدعة قادرة، تثير الفكر والتأمل، وتفتح أبواب اليمان واليقي. وإذا كان الاستمتاع، فإنه مدخل إلى ارتقاء الروح والذوق، وسمو النفس وخلصها من التردي والسقوط، ومحرك للفكر كي يجول إلى ما بالجمال مباحا هو أبعد من الظاهر الحسية فقط. فالجمال في الحقيقة، سبب من أسباب الإيمان، وعنصر من عناصره، والقيم الجمالية الفنية تحمل على جناحيها ما يعمق هذا الإيمان ويقويه، ويجعله وسيلة للسعادة والخير في هذه الحياة..

إن فلسفة الأخلاق، وعلم المنطق، وفلسفة الجمال، بدرجات متفاوتة من العمق، يجب أن تندرج في وجدان الشباب، حسب الرحلة العمرية التي يدرسون فيها بشكل أو بآخر. ان اختيار مناهج الأدب والشعر وفنون الكلام، يجب أن يتناسق مع هذه الرؤية، وإدماج هذه المنهجية بلا تردد في التعليم، هو جزء يجب ألا ينفصل عن رؤية التطوير الشاملة. إلا إنني أؤكد أن الأهم ليس في منهج يدرس، بل في معلم يفهم هذه القيمة، ومدرسة ومعهد تكون فلسفة الجمال رائدة لمضمونها..
بقلم أ.د. حسام بدراوي