الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

قضية الاشتغال بالبحث العلمى

الجمعة 05/يناير/2018 - 05:48 م

الانشغال بالبحث العلمي قصة حياة.. قصة تحتوي على حكايات من الواقع قد تكون رواية كاملة أو مجموعة من القصص القصيرة.. وتختلف النهايات في كل رواية أو كل قصة، فتلك نهاية قد تبدأ بالنجاح والصعود ثم تنتهي بـالهبوط.. وتلك نهاية قد تبتدأ بالإخفاقات ثم تنتهي بالصعود.. وتلك  نهاية لا فرق بينها وبين البدايات..
 
وحياة المنشغل بالبحث العلمي غير كل الحياوات.. بغض النظر عن طبيعة البدايات والنهايات, هي حياة فيها مداومة ومثابرة وتحدي للكشف عن الذات أو عن الاخر أو عن الأشياء.. ففي كل يوم يرى المنشغل بالعلم أسباب وتفسيرات لأسرار الذات أو الكون في الحياة أو الموت.. فعيون المنشغل بالعلم ميكروسكوب الاحداث التي ترى  الدواخل العميقة للأشياء لتسطر منها حكايات تتناقلها الأجيال..

وقد يأخذك البحث العلمي إلى اخر الكون أو إلي اعماق البحار أو إلى عنان السماء، فالمنشغل بالعلم يرى الحياة بعيون أخرى  ولكن تبقى رؤيته السوية لا تبرح عيون عقله الظاهر والباطن.. يرى العالم بعيون المدقق والمحلل من كل الزوايا والأركان ليخرج هو بركن جديد قد يركن له الاخرون.. المنشغل  بالعلم هو طبيب العالم الذي يبحث أسرار الكون ليكشفها, وجروح الإنسانية ليداويها  وعن الألام  ليطببها..

وللإنشغال بالبحث العلمي ضريبة, يدفعها صاحبها شاء ام أبي ضريبة  فكر, ضريبة اكتشاف المجهول, ضريبة التعمق في الحياة, ضريبة حمل مشكلات وهموم الآخر وضريبة الوقت.. ورغم كل هذه الانشغالات  والضرائب إلا أن الانشغال بالعلم يبقى متعة الحياة..
 
ويكفي أن المنشغل بالبحث العلمي من السهولة بمكان عليه أن يجيب يوم القيامة على الأسئلة الأربعة الواردة في حديث الرسول الكريم “لا تزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ عَن عُمُرِه فيما أفناهُ وعن جسدِهِ فيما أبلاهُ وعن عِلمِهِ ماذا عَمِلَ فيهِ وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ “..فالمنشغل بالعلم يفني عمره في البحث  والتنقيب عن الجديد , ويستخدم  عقله وجسده في التفكير في البحث, ويستخدم علمه لتعليم الاخرين وتطوير حياتهم, ويكتسب ماله-   ان  وجد –  وينفقه على العلم.. والبحث العلمي ليس مجرد وظيفة بل هو مهنة فوق العادة وهو أيضا هواية أصيلة. ولذلك فالباحث في العلم ليس بموظف عادي بل هو المهندس والفنان والكاتب والأديب  والإعلامي والفيلسوف والمحامي والقاضي والداعية ورجل الأعمال..

فالباحث في العلم هو المهندس عندما ينشئ فكرته على أعمدة نتائج أبحاثه وأبحاث من سبقوه ليخرج منها بهيكل قوي لمشروع كامل البناء.. وهو المدرس الأستاذ  عندما يقوم بشرح نواتج أبحاثه لطلابه بطريقة مبسطة وسلسة.. وهو المفكر عندما يحلل النتائج من منظوره الشخصي ومن منظور الآخرين.. وهو الكاتب والأديب عندما يكتب بأسلوب علمي رصين وراقي ومتأدب يفهمه المتخصص فيدركه ويضيف عليه ويفهمه الغير متخصص فيستفيد منه ويرتاح اليه . وهو الفيلسوف عندما يقوم بمناقشة وإخراج نواتج أبحاثه بأسلوب فلسفي يستطيع به إظهار الخفي من المعاني وربط الظواهر العلمية بالأمور الحياتية والتنبؤ بنتائج جديدة وتطبيقات مستقبلية لما وصل إليه..

والباحث  في العلم هو الفنان عندما يتخيل فرضية من نسج خياله ويرسمها بريشة أفكاره ويحولها إلي معلومات يتنبأ بها وعندما يتقمص دور الخلية أو الماكينة أو الجزئ أو المعادلة قبل أن تعمل بين يديه . وهو الإعلامي الذي يتحدث إلي المجتمع بأسلوب مبسط يفهم هدفه وأهميته الجميع خاصة علاقة أبحاثه بخدمة المجتمع. وهو المحامي الذي يدافع أمام غيره عن فكرته وعن نتائج أبحاثه بالبراهين والدلائل. وهو القاضي الذي يحكم علي أعمال الآخرين أيضا بالدلائل والبراهين والضمير العلمي..

والباحث في العلم هو رجل الأعمال الذي يدير ميزانية مشروعه بحكمة ويقدم مزيدا من المشروعات ليتوسع فيها ليدير معمله ويعين باحثين آخرين فيقلل من البطالة عامة والعلمية خاصة. وهو الناقد الذي ينقد أعمال الآخرين نقدا بناء لا يشوبه مصلحة أو منفعة.. وهو الداعية عندما يحقق إعجاز الله في خلقه ليس بمجرد الكلام المنقول ولكن بإضافات علمية تفسر وتدلل وتشرح ماكان مستورا عن العقل البشري من آيات الله في كونه..
 
ولذلك فالإشتغال بالعلم يتطلب شخصية غير عادية ، شخصية تمتلك مقومات تؤهلها إلي توظيف جميع مهارتها الفطرية والمكتسبة لصالح البحث العلمي الذي يضيف للعلم والحياة العامة والمهنية العلوم الأساسية وتطبيقاتها في التكنولوجيا والطب والزراعة والهندسة. والإشتغال بالبحث العلمي يحتاج تفرغا كاملا، وقراءة مستمرة، وتفكير مستمر، وتواصل مستمر، وسفر مستمر، وكتابات مستمرة حتي يحقق الباحث الأهداف المرجوة من البحث العلمي..

ولذلك يجب أن نوفر للباحث في العلم كل الظروف والإمكانات ليتفرغ تماماً لأبحاثه العلميه فلا يشتت ذهنه وإبداعه فيصبح مجرد موظفا عاديا يشتغل بالقواعد والقوانين.. والإشتغال بالبحث العلمي مختلفا عن باقي الأعمال والوظائف التي لا تتطلب إلا مجرد تطبيق اللوائح والقوانين. حتي الطب والقضاء يعتمد علي تطبيق القواعد والقوانين فلا مجال للتخيل أو الفلسفة أو النقد وإلا انعكس علي المجني والمجني عليه والمريض. أما الباحث في العلم فلا بد له من الإبداع الذي لا يتأتي إلا بالتخيل وافتراضات فوق القواعد والقوانين حتي يأتي بنظريات جديدة..
 
وإذا سلمنا أن كل منتجات حياتنا هي نواتج البحث العلمي ، وإذا سلمنا بأهمية الباحث في العلم في إنجاح وتطوير حياتنا والحفاظ علي أمننا وتراثنا القومي فيجب أن يُختار الباحث ليس فقط علي أساس تفوقه بل أيضا علي حساب مهاراته الذهنية والجسدية وكذلك علي قدر ثقافته وقراءته وعلي قدر صفاته النفسية من الأمانة والتعاون والتواصل والإلتزام. وبالطبع لن يتأتي معرفة كل هذه الخصال ذلك إلا بعد أن يخوض الباحث الخطوات الأولي في تجربة البحث العلمي والتي بناءا عليها يستطيع المسئول أن يختار فقط من تنطبق عليه مواصفات الباحث ليشتغل في البحث العلمي وبصورة رسمية. وهذا هو الحال المتبع في كل أنحاء العالم الذي ينظر إلي البحث العلمي بأنه مهنة فوق العادة..

"العلماء ورثة الأنبياء" ولذلك فالإشتغال بالبحث العلمي يتطلب رجال فوق العادة. ولا يوجد رجال فوق العادة إلا  إذا أتيحت لهم  ظروف فوق العادة . وفي الانشغال بالعلم ألف حياة وحياة.
تحياتي
ا.د. محمد لبيب سالم