الثلاثاء 30 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

البقرة المعجزة.. والعقل المستقيل!

الأحد 24/سبتمبر/2023 - 11:42 م

ثارت ضجة فى مواقع التواصل الاجتماعى، خلال الأيام الماضية، بعد انتشار فيديوهات «البقرة المعجزة» فى محافظة البحيرة، زعم مالكها أن البقرة الصغيرة التى لا يتجاوز عمرها 4 أشهر، حامل فى جنين 9 أشهر، وأنها ستلد قريبا بعملية قيصرية، بعدما أخبره طبيب بيطرى بذلك، على حد قوله، صاحب البقرة وأهالى قريته اعتبروها معجزة؛ وأطلقوا عليها اسم «مبروكة»، وراحوا يعددون البركات التى حلت بحياتهم منذ مجيئها.

لم تقصر السوشيال ميديا فى متابعة الحدث، مشهد يمكن إدراجه تحت بند الكوميديا السوداء. وبرغم أن طبيبا بيطريا هو من قال إن البقرة الرضيعة حامل، فإن كثيرين من خبراء الطب البيطرى سارعوا إلى التعليق على الأمر، ووصفوه بالخزعبلات؛ فالبقرة غير مكتملة النمو الجنسى، وليست «عشارا»، بل تعانى ورما ظاهرا فى الضرع، نتيجة «فتاق»، نزلت الأمعاء فى تجويفه، وهو مرض يصيب ذكور العجول وإناثها على حد السواء.

فيديوهات البقرة، على وسائل التواصل،تكرس للجهل والضحالة - فبقدر ما أعطت وسائل التواصل متعة فى الحياة، أعطت بالقدر نفسه زحاما لا نهائيا من الخرافات والأباطيل يصعب ضبطه- وهى تعبر بدقة عن انتشار التفكير الخرافى فى مجتمعاتنا، تفكير يربط بين شيئين لا رابط بينهما، ويعادى المعرفة الحقة ويهدر قيمة العلم، يبدو معه العقل غائبا أو مغيبا أو مستقيلا، ما يكشف عن مشكلة أخطر فى العقل الجمعى الذى يضفى على الخزعبلات هالة تقديس، أحيانا، دون فحص أو تمحيص أو تأمل. إن التفكير الخرافى نوع من التفكير السلبى، بمعنى أنه أحد وجوه المعرفة المظلمة، يستقطب النفوس القلقة الخائفة التى تسعى وراء الحظ أو الذوات اليائسة من الحلول الموجودة على الساحة لأسباب مختلفة.

العقل المستقيل خامل عن العمل؛وهو سبب تخلف وبلادة مجتمعاتنا العربية عموما، مجتمعات تعادى المعرفة والعقلانية ودراسات الجدوى، ما يجعل الأمر برمته تعبيرا عن أزمة العقل العربى وعدم قدرته على استعادة حيويته؛ للانخراط ثانية فى مسيرة البناء الحضارى، المؤسف أنه فى حين تتسابق شعوب العالم فى التكنولوجيات الراقية والذكاء الاصطناعى، نجد من بيننا من يؤمن بخرافات لا يصدّقها عقل سويّ، أما المحزن أكثر فهو أن يؤمن مجتمع، يُفترض بأنّه متديّن، ببركات حيوانات أو جمادات لا تنطق؛ وكأنّنا عدنا لعبادة الأوثان، وكأنهم يسألون البركات والأرزاق تمسحا بهذه البقرة المسكينة المريضة، أليست تلك جاهلية معاصرة؟!.هل هناك حاجز بينهم وبين المولى سبحانه؛ ليبحثوا عن بقرة تقربهم من عطاياه؟ حاشا لله وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، أم من الصعب عليهم أن يرفعوا أكفهم إلى الله بالدعاء. 

يقول الإمام على كرم الله وجهه: «نعوذ بالله من سبات العقل».. لاشك أنه لا يمكن إلقاء اللوم على أصحاب البقرة ومن آمن ببركاتها وحدهم فهذه ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة؛ مادامت المجتمعات تعانى الجهل والتخلف والفقر والتفاوت الرهيب بين الطبقات، وبات القدوة فى المجتمع لاعب كرة أو فنانا، مجتمع يبغض العلم والعلماء، وتتهاوى فيه قيمة العلم والتعليم وتتعرقل مساراته، لم يعد العلم يطعم أصحابه إلا فى حد الكفاف، وهذا ليس تقليلا بالطبع من قيمة الفن والرياضة التى تظل نشاطا ثانويا فى المجمل، أما العلم فهو ضرورة حياة ومعيار التفاضل الأبرز بين الأمم فى مدارج التقدم والمدنية والتحضر.

وهذا ليس مفصولا عن الصدمة الكبرى التى تلقاها العقل العربى، فى العصر الحديث، صدمة الحداثة التى أسهمت فى تشويش الذهنية العربية والإسلامية، ووضعت الأمة فى وضعية حرجة إزاء المحتل الأوروبى المتمدن، واشتد الصراع بين المدبرين عن الغرب والمقبلين عليه؛ بما انعكس فى نشوء بناء مهلهل من الأفكار، فى ظل الواقع الاجتماعى والاقتصادى المتردّى، والخلط بين الدينيّ والسياسيّ.. فجرى تشويه فكرة العقلانية ومحاربتها من جميع الأطراف تقريبا، لأن العقلانية أداة الوعى لدى الجماهير، فأصبحت العقلانية فى الفضاء العربى عقلانية معاقة وجامدة، غير قادرة على ممارسة وظائفها فى فتح دروب المعرفة، أو تكريس قيم التنوير والحداثة. هناك من يرى أن العقلانية عندنا تحولت إلى ما يمكن وصفه بعقلانية مضادة على العقلانية نفسها، ولذلك تجد من بيننا من يؤمن بكرامات بقرة مريضة!.

إن الإنسان فى الإسلام كون عقلى، سلطان وجوده العقل، والعقل هو الفرقان بين الحق والباطل، وهو من أجلّ القوى الإنسانية، بل هو قوة القوى الإنسانية وعمادها، والكون جميعه صحيفته التى ينظر فيها وكتابه الذى يتلوه. جعل الإسلام العقل مناط التكليف، فلا دين لمن لا عقل له؛ فلا يتوجه الخطاب الشرعى إلا للعقلاء من البشر، بينما يسقط التكليف وترتفع المسئولية عن فاقدى هذه النعمة الإلهية، تظهر العبارة المأثورة للإمام علي: «ربِ مَن أعطيته العقل فماذا حرمته؟.. ومَن حرمته العقل فماذا أعطيته؟»، قدر العقل فى الإسلام.

إن تحرير الفرد والمجتمعات من الخطابات الخرافية والتسطيحية والتفكير الفوضوى مسألة ضرورية للغاية، لأن أى تنوير لا يمكن أن يتم ما دام العقل مستلبا لمقولات زائفة وحكايا تقوم على الأكاذيب والأوهام، يحتاج الإنسان (والمجتمع) إلى العقل، ليوظفه أداة للمعرفة وملكة للتفكير، يمارس مهمة التنوير وفعل التثقيف، وتغييب العقل يعطل كل ما سبق ويجعل بركة الأبقار أداة لتحقيق الحاجات والأهداف

  • كاتب المقال 
  • د. محمد حسين أبوالحسن
  • مدير تحرير الاهرام