السبت 07 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
أخبار الأزهر

غزوة تبوك..وشهادة النبي صلي الله عليه وسلم لعثمان"ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم"

الجمعة 26/يونيو/2015 - 12:36 ص
السبورة

غزوة تبوك هي الغزوة التي خرج الرسول محمد صلي الله عليه وسلم لها في رجب من العام التاسع الهجري بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة اشهر تُعد غزوة تبوك هي أخر الغزوات التي خاضها الرسول محمد صلي الله عليه وسلم.

بدأت تداعيات تلك الغزوة عندما قرر الرومان إنهاء القوة الإسلامية التي أخذت تهدد الكيان الروماني المسيطر على المنطقة؛ فخرجت جيوش الروم العرمرمية بقوى رومانية وعربية تقدر بأربعين ألف مقاتل قابلها ثلاثين ألف من الجيش الإسلامي.

انتهت المعركة بلا صدام أو قتال لأن الجيش الروماني تشتت وتبدد في البلاد خوفًا من المواجهة؛ مما رسم تغيرات عسكرية في المنطقة، جعلت حلفاء الروم يتخلون عنها ويحالفون العرب كقوة أولى في المنطقة.

لذلك حققت هذه الغزوة الغرض المرجو منها بالرغم من عدم الاشتباك الحربي مع الروم الذين آثروا الفرار شمالًا فحققوا انتصارًا للمسلمين دون قتال، حيث أخلوا مواقعهم للدولة الإسلامية وترتب على ذلك خضوع النصرانية التي كانت تمت بصلة الولاء لدولة الروم مثل إمارة دومة الجندل، وإمارة إيلة (مدينة العقبة حاليا على خليج العقبة)، وكتب الرسول محمد بينه وبينهم كتابًا يحدد ما لهم وما عليهم وقد عاتب القرآن الكريم من تخلف عن تلك الغزوة عتابًا شديدًا، وتميزت غزوة تبوك عن سائر الغزوات بأن الله حث على الخروج فيها وعاتب من تخلف عنها والآيات الكريمة جاءت بذلك، كقوله تعال؛ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.

التسمية

اشتهرت هذه الغزوة باسم غزوة تبوك، نسبة إلى عين تبوك، التي انتهى إليها الجيش الإسلامي، وأصل هذه التسمية جاء في صحيح مسلم، فقد روي بسنده إلى معاذ أن محمد قال: «تأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها منكم فلا يمس من مائها شيئا حتى آتي.»لقد سميت أيضاً غزوة العسرة لشدة ما لاقى المسلمون فيها من الضنك، فقد كان الجو شديد الحرارة، والمسافة بعيدة، والسفر شاقًّا لقلة المؤونة وقلة الدواب التي تحمل المجاهدين إلى أرض المعركة، وقلة الماء في هذا السفر الطويل والحر الشديد، وكذلك قلة المال الذي يجهز به الجيش وينفق عليه.

ميز القرآن الكريم هذه الغزوة عن غيرها، فسميت ساعة العسرة، جاء في سورة التوبة: (قال تعالي: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيم) فقد كانت غزوة عسرة بمعنى الكلمة.

وللغزوة أيضًا اسمًا ثالث هو: الفاضحة، ذكره الزرقاني في كتابه «شرح المواهب اللدنية وسميت بهذا الاسم لأن هذه الغزوة كشفت عن حقيقة المنافقين، وهتكت أستارهم، وفضحت أساليبهم العدائية الماكرة، وأحقادهم الدفينة، وجرائمهم البشعة بحق رسول الله محمد صلي الله علية وسلم والمسلمين.

وأما موقع تبوك فيقع شمال الحجاز يبعد عن المدينة 778 ميلاً حسب الطريق المعبدة في الوقت الحاضر، وكانت من ديار قضاعة الخاضعة لسلطان الروم آنذاك.

سبب الغزوة

ذكر ابن كثير (700 هـ- 774 هـ) في تفسيره، وفي تاريخه: «أن الله سبحانه لما أنزل قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا"، قالت قريش ، كما ورد عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم، وكان ذلك بعد فتح مكة: "لينقطعن عنا المتاجر والأسواق أيام الحج، وليذهبن ما كنا نصيب منها، فعوضهم الله عن ذلك، بالأمر بقتال أهل الكتاب، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.» ويرى ابن كثير أن سبب الغزوة هو استجابة طبيعية لفريضة الجهاد ولذلك عزم الرسول محمد صلي الله علية وسلم قتال الروم لأنهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدعوة إلى الإسلام لقربهم إليه وإلى أهله، جاء في سورة التوبة( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )

قال ابن كثير، «فعزم رسول الله على قتال أهل الكتاب؛ لأن هذه الآية هي أول الأمر بقتالهم بعد ما أذل الله المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجًا، واستقامت جزيرة العرب.

وأمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول محمد صلي الله وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب فندبهم، فأوعبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفًا، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك عام جدب ، ووقت قيظ وحر ، وخرج رسول الله محمد صلي الله علية وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك، فنزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يومًا.»

ذكر المؤرخون أسباب هذه الغزوة فقالوا: «وصلت الأنباء للنبي من الأنباط الذين يأتون بالزيت من الشام إلى المدينة أن الروم جمعت جموعا وأجلبت معهم لخم وجذام وغيرهم من مستنصرة العرب، وجاءت في مقدمتهم إلى البلقاء، فأراد النبي أن يغزوهم قبل أن يغزوه.»

استعداد المسلمين للمعركة

وصلت أخبار الروم إلى الرسول في وقت صيف اجدبت في الأرض، واشتد فيه الحر، وقل فيه الماء، مما جعل الموقف مُحرج بالنسبة للمسلمين لكن محمد لم يكن يملك حلاً سوى مواجهة الرومان رغم كل التحديات التي يعيشها المسلمون، وبطبيعة الحال أتى القرار الحاسم الذي لا رجعة فيه من النبي بالخروج والزحف لمواجهة حشود الروم، فبدأ النبي محمد بإبلاغ قبائل العرب المجاورة وأهل مكة لاستنفارهم على الحرب وحثهم على الصدقات والدعم المادي للجيش الإسلامي، وفي هذا الوقت نزلت آية من سورة التوبة توصي المسلمين بالقتال والصمود، فكانت ردة فعل المسلمين تجاه قرار الرسول سريعة وواضحة فقد تدفقت القبائل والأفراد والمقاتلون للمدينة، وأتى القريب والبعيد استعداداً لقتال الروم. أما من ناحية الدعم المادي، فقد حث الرسول الصحابة على الإنفاق في هذه الغزوة لبعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته، وكان عثمان صاحب القِدْح المُعَلَّى في الإنفاق في هذه الغزوة،[ فهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: «شهدت النبي وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان، فقال: يا رسول الله عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه.» وعن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهما قال: «جاء عثمان بن عفان إلى النبي بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي جيش العسرة، قال: فجعل النبي يقلبها بيده ويقول: "ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم -يرددها مرارًا".»

عثمان بن عفان أكثر المجاهدين بالمال في الغزوة

وأما عمر فقد تصدق بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبا بكر بذلك، ويحدثنا عمر بنفسه عن ذلك حيث قال: «أمرنا رسول الله يومًا أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله، قال: وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال له رسول الله : «ما أبقيت لأهلك؟» قال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدا.» وروى أن عبد الرحمن بن عوف أنفق ألفي درهم وهي نصف أمواله لتجهيز جيش العسرة. وكانت لبعض الصحابة نفقات عظيمة، كالعباس بن عبد المطلب، وطلحة بن عبيد الله، ومحمد بن مسلمة، وعاصم بن عدي.

فقر وجهاد

قدَّم فقراء المسلمين جهدهم من النفقة على استحياء؛ ولذلك تعرَّضوا لسخرية وغمز ولمز المنافقين، فقد جاء أبو عقيل بنصف صاع تمر، وجاء آخر بأكثر منه، فلمزوها قائلين: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت الأيه( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليم).

لقد حزن الفقراء من المؤمنين؛ لأنهم لا يملكون نفقة الخروج إلى الجهاد، فهذا عُلَبة بن زيد أحد البكائين صلى من الليل وبكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ولم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسولك، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في جسد أو عرض، فأخبره النبي أنه قد غفر له.

خروج المسلمين

خرج المسلمون من المدينة بعدد كبير قوامه ثلاثين ألف لم يتخلف منهم إلا المنافقون، والثلاثة المشهورين، وقد استخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة وقيل سباع بن عرفطة، وجعل علياً خليفة على أهله فاخذ المنافقون يلمزون في ذلك ويقولون ما تركه إلا استثقالاً، وتخففاً منه. فأخذ علي بن أبي طالب سلاحه ولحق رسول الله وأخبره ما يقوله المنافقون وهو نازل بالجُرْف، فقال رسول الله :‏ «‏"كذبوا وإنّما خلّفتُك لما ورائي فارجعْ فاخلفْني في أهلي وأهلك أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي‏»"قال ابن هشام‏:‏ واستخلف رسول الله على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري‏.‏ قال‏:‏ وذكر الدراوردي‏:‏ أنه استخلف عليها عام تبوك سباع بن عرفطة‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وخلَّف رسول الله علي ابن أبي طالب على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، وقالوا‏:‏ ما خلفه إلا استقلالاً له. ، فلمَّا قالوا ذلك، أخذ عليّ سلاحه، ثمَّ خرج حتَّى لحق برسول الله فأخبره بما قالوا‏.‏ فرجع علي، ومضى رسول الله في سفره‏.‏[

لقد استطاع رسول الله أن يحشد ثلاثين ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وأهل مكة والقبائل العربية الأخرى، ولقد أعلن رسول الله -على غير عادته في غزواته- هدفه ووجهته في القتال، إذ أعلن صراحة أنه يريد قتال بني الأصفر (الروم)، علما بأن هديه في معظم غزواته أن يوري فيها، ولا يصرح بهدفه ووجهته وقصده، حفاظًا على سرية الحركة ومباغتة العدو.

وكانت الأسباب وراء ذلك: بعد المسافة فقد كان رسول الله يدرك أن السير إلى بلاد الروم يعد أمرًا صعبًا؛ لأن التحرك سيتم في منطقة صحراوية ممتدة قليلة الماء والنبات، ولا بد - حينئذ- من إكمال المؤنة ووسائل النقل للمجاهدين قبل بدء الحركة؛ حتى لا يؤدي نقص هذه الأمور إلى الإخفاق في تحقيق الهدف المنشود؛ كثرة عدد الروم، بالإضافة إلى أن مواجهتهم تتطلب إعدادًا خاصًّا، فهم عدو يختلف في طبيعته عن الأعداء الذين واجههم النبي من قبل، فأسلحتهم كثيرة، ودرايتهم بالحرب كبيرة، وقدرتهم القتالية فائقة شدة الزمان، وذلك لكي يقف كل امرئ على ظروفه، ويعد النفقة اللازمة له في هذا السفر الطويل لمن يعول وراءه؛ أنه لم يعد مجال للكتمان في هذا الوقت، حيث لم يبق في جزيرة العرب قوة معادية لها خطرها تستدعي هذا الحشد الضخم سوى الرومان ونصارى العرب الموالين لهم في منطقة تبوك ودومة الجندل والعقبة.

إثبات للعزيمة

الإمبراطرية البيزنطية عام 500

عندما أعلن الرسول النفير ودعا إلى الإنفاق في تجهيز هذه الغزوة، أخذ المنافقون في تثبيط همم الناس قائلين لهم: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله تعالى فيهم: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يفقهون فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوايَكْسِبُونَ وقال رسول الله وهو في جهازه لتبوك، للجد بن قيس: «يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجبًا بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر، فأعرض عنه رسول الله وقال: «قد أذنت لك» ففيه نزلت الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين) وذهب بعضهم إلى النبي مبدين أعذارًا كاذبة ليأذن لهم بالتخلف، فأذن لهم، فعاتبه الله بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِين] وبلغ رسول الله أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبطون الناس عن رسول الله، فأرسل إليهم من أحرق عليهم بيت سويلم لقد تحدث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل الغزوة وأثناءها وبعدها، ومما جاء من حديث القرآن الكريم عن موقف المنافقين قبل غزوة تبوك ما يتضمن استئذانهم، وتخلفهم عن الخروج، وكان ممن تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول، وقد تحدث القرآن عنهم فقال تعالى: لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون فقد بين -سبحانه وتعالى- موقف المنافقين وأنهم تخلفوا بسبب بعد المسافة وشدتها، وأنه لو كان الذي دعوتهم إليه يا محمد عرضًا من أعراض الدنيا ونعيمها وكان السفر سهلا لاتبعوك في الخروج، ولكنهم تخلفوا ولم يخرجوا، فالآية تشرح وتوضح ملابسات موقفهم قبل الخروج إلى الغزوة، وأسباب هذا الموقف. ثم حكى –سبحانه- ما سيقوله هؤلاء المنافقون بعد عودة المؤمنين من هذه الغزوة َوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . كان نزول هذه الآية قبل رجوعه من تبوك. والمعنى: وسيحلف هؤلاء المنافقون بالله -كذبًا وزورًا- قائلين: لو استطعنا -أيها المؤمنون- أن نخرج معكم للجهاد في تبوك لخرجنا، فإننا لم نتخلف عن الخروج معكم إلا مضطرين فقد كانت لنا أعذارنا القاهرة التي حملتنا على التخلف.

وقوله -سبحانة لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ .

قال ابن عاشور: أي يحلفون مهلكين أنفسهم -أي موقعينها في الهلك، والهلك: الفناء والموت- ويطلق على الأضرار الجسمية وهو المناسب هنا أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة، وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك.

لقد كانت غزوة تبوك منذ بداية الإعداد لها مناسبة للتمييز بين المؤمنين والمنافقين، وضحت فيها الحواجز بين الطرفين، ولم يعد هناك أي مجال للتستر على المنافقين أو مجاملتهم، بل أصبحت مجابهتهم أمرًا ملحًّا بعد أن عملوا كل ما في وسعهم لمجابهة الرسول والدعوة، وتثبيط المسلمين عن الاستجابة للنفير الذي أعلنه الله تعالى ورسوله، والذي نزل به القرآن الكريم، بل وأصبح الكشف عن نفاق المنافقين، وإيقافهم عند حدهم واجبًا شرعيًّ.]

الوصول لحجر ثمود

قال أبو كبشة الأنصاري لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول الله فنادى في الناس: «الصلاة جامعة» قال: فأتيت رسول الله وهو ممسك بعيره، وهو يقول: «ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم؟» فناداه رجل منهم: نعجب منهم يا رسول الله، قال: «أفلا أنذركم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسددوا، فإن الله عز وجل لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا».] وقال ابن عمر رضي الله عنهما: إن الناس نزلوا مع رسول الله أرض ثمود، الحجر، واستقوا من بئرها، واعتجنوا به، فأمرهم رسول الله أن يهريقوا ما استقوا من بئرها، وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة وقال رسول الله: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين حذرًا أن يصيبكم مثل ما أصابهم» ثم زجر فأسرع حتى خلفها،] وهذا منهج نبوي كريم في توجيه رسول الله صحابته إلى الاعتبار بديار ثمود، وأن يتذكروا بها غضب الله على الذين كذبوا رسوله، وألا يغفلوا عن مواطن العظة برسومها الدارسة، وأطلالها القديمة، ونهاهم عن الانتفاع بشيء مما في ربوعها، حتى الماء لكيلا تفوت بذلك العبرة، وتخف الموعظة، بل أمرهم بالبكاء، وبالتباكي، تحقيقا للتأثر بعذاب الله. فالغابرين شهدوا المعجزات ودلائل النبوة، وعاينوا العجائب، لكن قست قلوبهم فاستهانوا بها، وحق عليهم العذاب، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون من نقمة الله وغضبه. إن الله عز وجل ما قص علينا من أنباء الأمم الخالية، إلا لكي نأخذ منها العظة والاعتبار، فإذا شهدنا بأعيننا ديارهم التي نزل فيها سخط المولى عز وجل وعذابه الأليم، وجب أن تكون الموعظة أشد، والاعتبار أعمق، والخوف من سخط المولى –سبحانه- أبلغ، ولهذا تسجى النبي صلوات الله وسلامه عليه بثوبه لما مر بالديار الملعونة المسخوطة واستحث خطا راحلته وقال لأصحابه: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، حذرًا أن يصيبكم ما أصابهم».]

الأخذ بالمشورة:

مشورة ابو بكر

قال عمر بن الخطاب: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقى على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيرًا، فادع الله، قال: «أتحب ذلك؟» قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى حالت السماء فأظلت ثم سكبت فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.]

مشورة عمر بن الخطاب

أصابت جيش العسرة مجاعة أثناء سيرهم إلى تبوك، فاستأذنوا النبي في نحر إبلهم حتى يسدوا جوعتهم، فلما أذن لهم النبي في ذلك جاءه عمر فأبدى مشورته في هذه المسألة، وهي أن الجند إن فعلوا ذلك نفدت رواحلهم وهم أحوج ما يكونون إليها في هذا الطريق الطويل، ثم ذكر حلا لهذه المعضلة وهو: جمع أزواد القوم ثم الدعاء لهم بالبركة فيها، فعمل بهذه المشورة حتى صدر القوم عن بقية من هذا الطعام بعد أن ملأوا أوعيتهم منه وأكلوا حتى شبعوا.

عمر بن الخطاب

عندما وصل النبي إلى منطقة تبوك وجد أن الروم فروا خوفًا من جيش المسلمين، فاستشار أصحابه في اجتياز حدود الشام، فأشار عليه عمر بن الخطاب بأن يرجع بالجيش إلى المدينة وعلل رأيه بقوله: إن للروم جموعًا كثيرة وليس بها أحد من أهل الإسلام، ولقد كانت مشورة مباركة؛ فإن القتال داخل بلاد الرومان يعد أمرًا صعبًا، إذ إنه يتطلب تكتيكًا خاصًا لأن الحرب في الصحراء تختلف في طبيعتها عن الحرب في المدن، بالإضافة إلى أن عدد الرومان في الشام يقرب من مائتين وخمسين ألفـًا، ولا شك في أن تجمع هذا العدد الكبير في تحصنه داخل المدن يعرض جيش المسلمين للخطر.[44]

موقف المنافقين والاستهزاء بدين الله ورسوله

قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما قال رجل في غزوة تبوك في مجلس يومًا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنَّ رسول الله، فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن. قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله والحجارة تنكبه، وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، والرسول يقول: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون؟». وفي رواية قتادة قال: بينما رسول الله في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات هيهات.. فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله محمد: «احبسوا هؤلاء الركب»، فأتاهم فقال: قلتم كذا وقلتم كذا، قالوا: فأنزل الله فيهم ما تسمعون،[45] فأنزل الله تعالي . وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ العاقدين وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ.

كنا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون] ثم بين -سبحانه- أن استهزاءهم هذا أدى بهم إلى الكفر فقال: لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِين] وقوله: ﴿إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ أي: إن نعف عن بعضكم لتوبتهم وإنابتهم إلى ربهم -كمخشن بن حمير- نعذب بعضًا آخر لإجرامهم وإصرارهم عليه.]

إيذاء الرسول والمؤمنين ومحاولة اغتيال رسول الله

وقد نزل في هؤلاء المنافقين قول الله تعالى" يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ] وقد ذكر ابن كثير أن الضحاك قال: إن نفراً من المنافقين هموا بالفتك . وهو في غزوة تبوك في بعض الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلا نزلت فيهم هذه الآية،] وفي رواية الواحدي عن الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله إلى تبوك، فكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله وأصحابه، وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله فقال لهم رسول الله: «يا أهل النفاق، ما هذا الذي بلغني عنكم؟» فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك، فأنزل الله هذه الآية إكذابًا لهم.]

أزمة مسجد الضرار

حاول المنافقون أن يضفوا الشرعية على هذا البناء وأنه مسجد بنوه لأسباب مقنعة في الظاهر، ولكن لا حقيقة لها في نفوس أصحابها، فقد جاءوا يطلبون من الرسول الصلاة في هذا البناء ليكون مسجدًا قد باركه رسول الله بالصلاة فيه، فإذا حدث هذا فقد استقر قرارهم في تحقيق أهدافهم الماكرة.[] وقد أطلعه الله -عز وجل- على أسرار هؤلاء المنافقين وما أرادوه من تأسيس هذا المسجد، فلولا إعلام الله لرسوله لما أدرك رسول الله حقيقة نواياهم، ولصلى في البناء فأضفى عليه الشرعية وأقبل الناس يصلون فيه لأن رسول الله صلى فيه، وبذلك يحدث الاختلاط بين المنافقين وضعاف المسلمين فينفردون بهم وقد يؤثرون عليهم بالشائعات. لذلك، أمر محمد بهدم المسجد وكذا أي عمل يراد منه الإضرار بالمسلمين وتفريق كلمتهم. فكل مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار لا تجوز الصلاة فيه.]

وصول الجيش إلى تبوك

لما نزل المسلمون بتبوك، وبدأت ملامح القتال، قام فيهم رسول الله وخطب قائلا: "أَيّهَا النّاسُ، أَمّا بَعْدُ، فَإِنّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ، وَأَوْثَقَ الْعُرَى كَلِمَةُ التّقْوَى، وَخَيْرَ الْمِلَلِ مِلّةُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَخَيْرَ السّنَنِ سُنَنُ مُحَمّدٍ، وَأَشْرَفَ الْحَدِيثِ ذِكْرُ اللّهِ، وَأَحْسَنَ الْقَصَصِ هَذَا الْقُرْآنُ، وَخَيْرَ الْأُمُورِ عَوَاقِبُهَا، وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَأَحْسَنَ الْهُدَى هُدَى الْأَنْبِيَاءِ، وَأَشْرَفَ الْقَتْلِ قَتْلُ الشّهَدَاءِ، وَأَعْمَى الضّلَالَةِ الضّلَالَةُ بَعْدَ الْهُدَى، وَخَيْرَ الْأَعْمَالِ مَا نَفَعَ، وَخَيْرَ الْهُدَى مَا اُتّبِعَ، وَشَرّ الْعَمَى عَمَى الْقَلْبِ، وَالْيَدَ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ السّفْلَى، وَمَا قَلّ وَكَفَى خَيْرٌ مِمّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَشَرّ الْأُمُورِ الْمَعْذِرَةُ حِينَ يَحْضُرَ الْمَوْتُ، وَشَرّ النّدَامَةِ يَوْمُ الْقِيَامَ