الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

مشاهد تنبض في ذاكرة مثقوبة".. وزير التعليم الأسبق يقدم مذكراته التعليمية"

الإثنين 29/مارس/2021 - 08:30 م
جمال-موسي-السبورة
جمال-موسي-السبورة

نشر الدكتور جمال موسي وزير التعليم الأسبق علي صفحتة علي موقع "فيسبوك"، تدوينة تعليمية تحت عنوان مشاهد تنبض في ذاكرة مثقوبة.

واليكم نص التدوينة

الجزء الأول – سنوات التكوين

الفصل الثاني - المرحلة الثانوية – منظمة الشباب – أوائل الطلبة
المشهد (1)
نجحتُ في الشهادة الإعدادية بمجموع معقول سمح لي بالالتحاق بمدرسة السنبلاوين الثانوية للبنين، التي يطلق عليها حاليا اسم "مدرسة أحمد لطفي السيد". 

كانت حينئذ مع مدرسة البنات الثانوية، وحدهما، تتيحان هذا المستوى من التعليم في كل مركز السنبلاوين.

 لحقتهما بعد سنوات قليلة مدرسة في المقاطعة، ثم أخرى في تمي الأمديد، وبعدهما توالى إقامة مدارس أخرى.

توجب عليَّ التعرض لتجربة حياة الغربة في سن مبكرة، فاستأجرت مع أربعة من زملائي شقة تقع في عمارة تطل على شارع سعد زغلول الرئيسي في المدينة. احتفظت لنفسي بحجرة صغيرة مستقلة، على حين تقاسم الحجرتين الأخريين: نبيل راشد وحلمي رزق ومتولي عبد العاطي، الذي يسبقنا بعام وتخرج فيما بعد من طب الإسكندرية، وعبد الله سيداحمد أحد أقربائي (فجده عبد الوهاب ابن عم جدي موسى ورفيقه في رحلة الدراسة في معهد الإسكندرية الديني)، الذي تخرج فيما بعد من كلية زراعة عين شمس، واشتغل مهندسًا زراعيًا، ثم انتقل للإدارة المحلية، رئيسًا لمجلس قروي المقاطعة سنوات طويلة، ثم رئيسًا لإحدى مدن الدقهلية. 

لم أحب فوضى وزحام المدينة، التي تبعد أربعة عشر كيلومترًا عن قريتي، ولم أتأقلم مع اختلاف السلوكيات الغالبة فيها عما تعودت عليه، لكن أسعدتني نعمة الكهرباء التي نتمتع بها طوال النهار والليل، كما فرحت بالذهاب أحيانًا مع أصدقائي إلى المقاهي لمشاهدة التلفزيون، خاصة مباريات كرة القدم والأفلام السينمائية. 

عرفتُ طريقي أيضا لبعض محال السندويتشات والمطاعم ومحال عصير القصب ومحل متميز في صنع آيس كريم الحليب يقع قريبًا من "قنطرة حمامة". عندما أصاب بالملل كنتُ أزور خالتي "صفية"، شقيقة والدتي الكبرى، المتزوجة من رجل تعليم فاضل هو الأستاذ علي النحاس، ناظر المدرسة المنضبط كالساعة الذي كان له الحق أن يفخر بأنه لم يحصل طوال حياته الوظيفية على يوم واحد كإجازة، ولم يقبل أبدًا إعطاء درس خصوصي لأحد. 

كنتُ أزور أيضًا من حين لآخر خالتي "أميمة" التي انتقلت بعائلتها من السرسي إلى السنبلاوين، لتيسر لأبنائها سبل التعليم.

أغادرُ قريتي صباح السبت من كل أسبوع، محملًا بأكلات تعدها والدتي تكفيني عدة أيام، وأعودُ إليها مساء الخميس. وقد أتلقى في منتصف الأسبوع عامودًا من الحلل الصغيرة يُرسل مع أحد مالكي عربات الأجرة الثلاثة الذين يخدمون على خط المقاطعة – السنبلاوين: العم أحمد السحلي، العم علي أحمد، والعم عبد الهادي. كان العامود يُترك أمانة لحين حصولي عليه لدى "عبد الفتاح الفكهاني" صاحب كشك الفاكهة المقابل لموقف سيارات المقاطعة، الذي تفخر زوجته بأنها ابنة خالة المطربة "أم كلثوم"، وتمدح كثيرًا كرمها وحرصها على إعانة أهلها في قريتها "طماي الزهايرة" القريبة من مدينة السنبلاوين. 

أتذكر أن جدي حكى ليّ أنه شاهد أم كلثوم التي تصغره بعامين، وهي دون سن العاشرة، تنشد مع والدها في حفل بالمقاطعة أو في قرية مجاورة. 

مع مرور الأيام، تدربتُ على يد زملائي لإعداد بعض المأكولات البسيطة، إن لزم الأمر، مستعينًا بوابور الجاز "البريموس". لم تكن تجربة يسيرة، حيث كنت الأصغر سنًا والأقل تأقلمًا على الحياة المشتركة. في فصل الشتاء، كنا نشعر بزمهريره، وكنت أقلق من رؤية البرق الخاطف وسماع دوي الرعد الذي لا يتوقف لعدة ساعات في بعض الليالي، وهي ظاهرة انحسرت كثيرًا في السنوات الأخيرة. الأسوأ بالنسبة لي كان تواصل الأمطار الذي يغرق الشوارع والطرق الترابية، فتتوقف المواصلات. 

كثيرًا ما اضطررتُ للسير على قدمي خائضًا في الوحل والطين أو مستعينًا بركوبة تأتي لنجدتي، لاجتياز المسافة غير المرصوفة الممتدة ستة كيلومترات بين قريتي المقاطعة وبرقين، في طريقي لبدء أسبوعي الدراسي أو عند العودة منه. 

غير أن معاناتي تلك السنة كانت أكبر في المدرسة، حيث اعتبرتها السنة الأصعب في كل حياتي الدراسية. كانت إدارة المدرسة ترتب التلاميذ في الفصول بحسب مجموعهم في الشهادة الإعدادية، فالتحق عدد من زملائي الذين أتوا معي من المقاطعة بفصل المتفوقين (أولى أول)، والتحق بقيتهم بالفصول الأخرى حتى أولى سابع، على حين التحقت أنا بفصل أولى خامس الذي كان يضم عددًا من الراسبين والتلاميذ الأكبر سنًا والأشرس سلوكًا. 

كانوا يسخرون من بعض المعلمين ويحيلون بعض الدروس إلى مشاهد من الكوميديا الساخرة، ولم أسلم وغيري من الزملاء الجدد من تنمر بعضهم. 

ولأول مرة في حياتي عانيت مرارة الرسوب في أحد المقررات، فقمتُ بدخول امتحان الملحق في مادة الرياضيات واجتزته بنجاح. مع ذلك، قررت بحسم ترك الرياضيات والقسم العلمي كله للالتحاق بالقسم الأدبي.
 
لم تكن أموري في تلك السنة كلها سلبية، فقد انتخبتُ ممثلًا لفصلي في اتحاد طلاب المدرسة، ومارستُ الكثير من الأنشطة الثقافية.

 قرب نهاية العام الدراسي، طُلب من كل أعضاء الاتحاد الذهاب إلى مسرح المدرسة لمقابلة لجنة من "الموجهين" المكلفين من "منظمة الشباب" باختيار طلاب متميزين لحضور الدورة الأولى التي ستعقد في "المعهد الاشتراكي" بالمنصورة. 

هناك تركت انطباعًا إيجابيًا للغاية على أعضاء اللجنة، فقد أدهشهم إلمام أصغر تلاميذ المدرسة سنًا بالكثير من المعلومات الثقافية والسياسية، فضلا عن كونه قيادة طلابية منتخبة.


أقيم "المعهد الاشتراكي" على أرض تابعة لمدرسة الزراعة الثانوية في شارع الجلاء بالمنصورة الذي كان حينئذ على مشارف الأراضي الزراعية. 

كنا نبيت في خيام أقيمت بالقرب من المباني، وننقسم إلى مجموعات صغيرة يتولى قيادة كل منها أحد الموجهين الذي يطرح بعض الموضوعات السياسية أو الفكرية، ثم يدير حوارًا مع أفراد المجموعة المشكلة من خليط من الطلاب القادمين من مختلف قرى ومدن المحافظة وبعض المحافظات المجاورة.

 أتذكر أيضًا أننا كنا نلتزم يوميًا بطابور الصباح ونمارس بعض الأنشطة الرياضية ونقيم حفلات سمر في المساء. 

لم تستمر الدورة سوى عشرة أيام، عدت بعدها إلى بيتنا وقد صرت عضوًا في المنظمة. غير أنني سرعان ما تلقيت إخطارًا باختياري ضمن عدد قليل ممن شاركوا معي في الدورة الأولى للذهاب إلى معسكر أبو قير في الإسكندرية لاجتياز "المرحلة الثانية" لمدة أسبوعين. 

ضمت تلك المرحلة شبانًا من أعمار ومهن ومستويات مختلفة. ظروف الإقامة بدت أصعب، لأن الخيام لم تكن جيدة التجهيز، تقتحمها أحيانًا بسبب الحر الشديد العقارب والحشرات. 

كنا نذهب من حين لآخر إلى شاطئ البحر ونقيم أيضًا حفلات تعارف وسمر، لكن بقت مهمتنا الرئيسية هي قراءة المذكرات والنشرات التي وزعت علينا والمشاركة في الحوار بشأنها.


كان هناك بين زملائنا من يتحمس للاشتراكية الماركسية، ومنهم من يميل إلى الرضا عن الواقع واعتبار أن "الميثاق الوطني" تضمن الخط المستقيم الذي يتعين ألا نحيد عنه. 

عن نفسي لم أكن متحمسًا بقوة لأي من التوجهين، حيث لم يكن يتملكني انتماء "دوجماتي" مسبق يدفعني للإنحياز لفكر أوحد، كما بدأت تظهر عندي، ربما بسبب تربيتي أو قراءاتي، بواكير قناعاتي الخاصة الرافضة للإنسياق نحو تقديس الأشخاص أو المذاهب أو النظريات الكبيرة أو تمجيد الشكل على حساب الجوهر، فعبرتُ عن قناعاتي النقدية بكل موضوعية وهدوء. 

الغريب أن ذلك كان، دون أن أدري أو ألاحظ، محل رضا الموجه الذي يدير مجموعتنا، فتم تصعيدي ضمن عدد محدود للغاية من أعضاء المنظمة لحضور "المرحلة الثالثة" التي كان ينظر إليها كقمة السلم التأهيلي للمنظمة ولم تعقد سوى لدورة واحدة.