السبت 27 يوليو 2024
رئيس مجلس الإدارة
محمد ابراهيم نافع
رئيس التحرير
محمد الصايم
مقالات

منى الصاوي تكتب.."توت".. إله من رحم الألم

الأربعاء 22/مايو/2024 - 03:35 ص

" الحباية البيضاء".. تحولت تلك الكبسولة المهدئة التي وصفها لي طبيب الأمراض النفسية الذي صاحبني "رحلة الآلام" منذ رحيل والدي، إلى مكوك فضائي، قادرًا على اصطحابي في رحلة إلى أكوان العقل اللاواعي.

استرقت عيناي لحظات تستريح فيها من البكاء، واستقل عقلي "آلة الزمن"، وعاد بي لحقبٍ ما عايشتها لكني قرأتها بخط يد الزمان على وجه أبي البشوش ذي الملامح الطيبة.

ذلك الزمان الذي هيأ نفسه معلمًا، يرتدي جلبابًا أبيض زاهيًا، ومعطفًا من الجلد الطبيعي، يتقن مادة "الذكريات" ويلقنها لطلابه الذين ولدوا على كفيه، ورافقهم رحلاتهم حتى مثواهم الأخير، مدونًا على وجوههم درجات “أعمال” العمر، بقلمه هو.

"قلم" خلق نفسه من عظام الموتى، واتخذ من دموع الموجعين حبرًا له، حوّل وجه أبي إلى "مدونة" عتيقة، حفظت في طياتها ذكريات امتدت لخمسة وستين عامًا، ودون على جبهته عنوانًا "ناجح بامتياز".

آلة الزمن، هيأت لي والدي كالمسيح عيسى بن مريم، لكنه أكثر إشراقًا وجمالًا وشبابًا وجاذبية، كما كان أكثر تأثيرًا على مخلوقات الأكوان جميعها.
"الإله توت"، ما أن تمس كفوفه جفني كفيف إلا ويبصر، يبصر فقط جمال الحياة.
ما أن يضع "توت" يداه على صدر امرأة عجوز تفتت قلبها حزنًا على فقدان "ضناها" إلا وكف عن الأنين والكمد، ما أن يقبض كفيه ناظرًا إلى تلك الفتاة المكلومة التي خانها حبيبها إلا ويلملم بين أصابعه "فتافيت" روحها، ويرد إليها بكارة قلبها كأن لم يمسه وجعٌ قط.. قلب خلق للتو.


ثياب رثة وحال متدهورة، ووضع نفسي يرثى له، اتخذت من رصيف الشارع مأوى لها، هكذا كانت الحالة التي عليها الست "عفيفة" العاقر، مّر عليها "الإله توت"، وقبض يداه ممسكًا مخزون "الفرحة" التي تناثرت كالفراشات، ووضعها بقلبها، فتحولت دموعها إلى أطفالٍ، يلهون ويلعبون ويكسرون بـ "شقاوة" سلاسل الحزن التي شنقت بهجة أمهم المُسنة.
أمسكا الأطفال بيد الست "عفيفة" وعادوا مجددًا للبيت الذي يسكنه أبوهم، ذلك الرجل العجوز الذي تراكم على ظهره الألم والحزن وأجبره على الانحاء.
تحول الأطفال إلى أطباء متخصصين في " المعجزات"، أعادوا لأبيهم شبابه مجددًا، كما كسروا رتابة البيت الذي ظل هادئًا طيلة ثلاثين عامًا بلا ضجيج.

أعاد "الإله توت" تشكيل الأكوان بما يروق له، وخلق السماوات واحدة فوق الأخرى كما لو كان يراقص عرائس الماريونت.

تحولت السماوات السبع إلى متحفٍ مفتوحٍ، ارتسمت على جدارياته لوحات لونها عاشقون ذاقوا حلاوة الحب حتى الانتشاء، متحفٍ يعج بالحياة، وأصبح هو مخرجًا لمسرحية "العمر"، يشير بسبابته للسماء الأولى كوني " رقيعًا"، واتخذي من أنفاس العشاق دخانًا لك، ويأمر الثانية كوني "أرقلون"، وافردي ذراعيكِ لينام ملائكة الحب مطمئنين سالمين هادئين.

والسماء الثالثة يدللها، "حبيبتي.. كوني لي تلك الليلة "قيدوم"، وزيني صدرك بالياقوتة الحمراء التي تؤجج مشاعري، أما الرابعة فرسمها "ماعونًا" تلك اللوحة الزاهية الخاطفة، التي تتخذ من الملائكة السُجّد إطارًا لها.
"ريع".. تلك السماء الخامسة التي ارتسمت في صورة امرأة متوهجة بجسد مخملي، خلقت بجلد من " اللؤلؤ"، لا يروي ظمؤها إلا بحور متدفقة من عاشق " مسه الشوق فذاب".


"دفتا"، سماء سادسة تقمصت دور "مايسترو"، ترتدي معطفًا من الياقوت الأصفر، تقود مئات الملايين من الملائكة الذين يرددون ترنيمة السلام.

كافأ "الإله توت" أكثر الملائكة جمالًا وبهاءً، وألبسها تاجًا مرصعًا بالألماس، وفستانًا أبيض أنيق، لتكون تلك السماء السابعة "عريبًا".


اصطفت السماوات وأمسكا أيادي بعضها في بهاء ورقي وشموخ وترقب، يتمايلون جميعهم حول كرسي العرش يتغنون لـ “الإله توت".. " كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله".